أخلاق عصابات


نور ناجي

أطلق الهرة التي كان يداعبها بأصابعه ليترك مقعد مكتبه المعتم مديراً ظهره عن كلمات الزائر الغريب، لحظات قصيرة استغرقته في تفكير عميق قبل أن يستدير ويبدأ حديثه بنبرة هادئة تخفي حدة وتحفز خنجر جائع:" بوناسيرا، بوناسيرا، ما الذي فعلته لاستحق منك أن تعاملني بلا احترام هكذا؟! "، توقفت كلمات "دون كورليوني" أمام ارتباك الزائر الذي ازداد توتراً، حين توجه إليه " الدون " بخطى بطيئة ونظرة غامضة ببذلته الأنيقة ورائحة العطر الذي اخترق الشاشة ليصلني :" لو كنت أتيتني كصديق لكان هذان الوغدان اللذان عذبا ابنتك يتعذبا الآن !!"..
 
كان ذلك جزء من مشهد افتتاحية فيلم " The Godfather "، الذي يجبرك على التسمر أمام احداثه التي مر على تصويرها سنوات قد تفوق عمرك..
 
للعصابات طعم مختلف حين تتحرك على سطح الشاشة، تجعلك لا تتعاطف فقط مع أفعالها الإجرامية بل تذرف الدموع مع الظلم الذي ينالها من "سلطة القانون الجائرة" أو من عدالة القدر وانتقامه، وقد غضضنا بصرنا عن تجاوزها  ومجازرها التي ارتكبت منذ انطلاق المشاهد!!..
 
 في كل الأحوال لن يقوى قلبك أو يتجرأ على إدانة أسطورة " كمارلون براند" أو " آل باتشينو" واتهامهما بالغلو في القتل أو قسوة القلب..
 
برغم تعريفهما في أحداث الفيلم كزعماء عصابة المافيا، مازال " دون كورليوني وابنه كارل " يحملان الكثير من الأخلاق التي تعاملا بها مع أطراف النزاع  التي تصارعهم، مضيفين للفيلم نكهة مميزة بنصائح أصبحت مقولات حكيمة تناسب كل عصر، فالأخلاق والنبل في معاملة العدو ثابتة على مر السنوات حتى في قاموس عصابات السينما ، لم نشاهد " كارل" مثلاً يفجر منزل لعدوه أو يتمادى في غيه لزراعة الموت لبقية العائلة أو المنطقة التي ينتمي إليها..
 
هل أكثر الشعب اليمني من مشاهدة الأفلام حتى أفسدته وظن أنه سيواجه تلك العينة من زعماء العصابات في الحياة الواقعية؟! أرى ذلك في ثبات ملامح الدهشة على قسمات الوجوه وهي تراقب تصرفات ميليشيا الانقلاب من لحظة حصارها لدماج حتى اهانة المرأة اليمنية ومن قبلها الرجل العاجز أمام ما حدث في مظاهرات الجامعة القريبة، وكأن أربع سنوات  ليست كافية لنا للتعرف على طريقة عمل الميليشيا الممنهج!!
 
لنكن صرحاء مع أنفسنا قليلا، حكومتنا عاجزة مقيدة فمن غير المعقول أن تكون السياحة والتنزه في الخارج قد سلباها شعورها بالمسئولية وأضاع طريق أهدافها طيلة هذه السنوات..
كما أن العصابات لا أخلاق لها فالحروب وحساباتها كذلك، أدركت الحكومة اليمنية ذلك متأخرة حين قيدت نفسها ووقعت في خطيئتها الكبرى التي أيدها الكثير بسذاجة بعد قبولها بمساعدة غير مشروطة على طريقة " دون كورليوني" :" سأقدم لكم عرضاً لا يمكنكم أن ترفضوه!"..
 
لم ترفض الحكومة العرض لكنها لم تتوقع الثمن الباهظ التي سيتوجب عليها دفعه، فالمساعدات والتحالفات لا تعقد مجاناً، بل بأثمان باهظة يجب أن تسدد عاجلا ام آجلا، بعضها ذو غصة أقسى من مرارة الحرب نفسها وأعلى قيمة من توقعاتها، وما نشاهده حولنا ليس سوى قسط أولي سيتبعه الكثير..
 
لن تنتهي الحرب قريباً ولا يراد لها أن تنتهي على المدى القصير، كما أن الأوطان لا تتحرر إلا على يد أبنائها، فما هو الحل المتاح لليمني في ظل هذه الظروف؟!.
الانضمام لجبهة متوقفة لن يحمي قلعة أو يحرك فرس وبيدق على رقعة الحرب، وليست المظاهرات السلمية والاعتصامات المدنية سوى عبث يزيد المواطن إهانة وذلاً !!..
 
لا يفل الحديد سوى الحديد، ولا تكسر العصابة الهوجاء سوى مقاومة سرية منظمة، حرب عصابات تشمل كافة أبناء الشعب اليمني بعد ترك انتماءاتهم أو دفنها في أعمق حفرة ممكنة حتى استرداد الأرض وعودة العصابات الباغية لجحورها ..
 
بالنسبة لي العودة للفيلم أكثر إلهاما من مهازل الحرب التي بدأت بالتعري الوقح على الملاء، كنت قد توقفت في منتصف أحداثه أمام مشهد غريب، وكأنه استبق الزمن ليخص الشعب اليمني به :" ما الحيلة؟!، لابد أن يحدث مثل ذلك كل عشر سنوات تقريباً، وهذا يطهر الدم الفاسد، ثم أننا إذا تركناهم يدوسون على زهورنا فسيطمعون بسلبنا كل شيء، كان يجب أن نوقفهم عند حدهم منذ البداية، كما كان من الواجب إيقاف هتلر في ميونخ!!.. "..
 
أرجو لمن شدته اقتباسات الفيلم، مشاهدة ممتعة ..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر