شهادة وجود


فكرية شحرة

 تأمل الورقة بين يديه الصَلبتين بتركيز شديد.. لم يكن يفهم من كل تلك الطلاسم المكتوبة والأختام المطبوعة إلا أنها شهادة، كما قال له صديقه الذي استخرجها.
 
أدرك بدهشة أنه لم يسبق له في كل حياته أن تسلم شهادة من أي جهة، على أي شيء ما قام به، أو فعله، أو شارك فيه ..! حتى أنه لم يرتد أي مدرسة، كي يحصل على شهادة ابتدائية، أو تخرج، أو تكريم ..! حتى شهادات ميلاد أطفاله الخمسة استخرجتها زوجته، رغما عنه، وتسلمتها هي ..!
 
لم يحسن في حياته سوى الحفر، ولم ينل على عمله هذا شهادة تقدير كونه حفارٌ جيد، بل صادفته نظرات توجس لا يفهمها في عيون الناس ..!!
 
إنه حفار قبور؛ عاش عمره كله داخل أسوار المقبرة؛ لا يقرأ الأسماء الفخمة على الأضرحة، لكنه يدفن بيديه كل أصحاب الشهادات ..
 
يتذكر تلك الليلة الحالكة؛ حين لجأ رجل غريب إلى مقبرته خلسة..، يومها غضب بشدة، حين سمع صوت الرجل يدندن بصخب..!! ذلك لأنه يرى أسوار المقبرة عالمه وبيته، وكل الموتى جيرانه، فكيف يدخل هذا الغريب ليغني في ليل هجوعهم؟!
 
وحين اقترب منه، رأي له هيئة محترمة، حتى أنه يضع قطعة القماش، تلك التي تتدلى من عنقه، على صدره. لكنه يبدو كفاقدٍ لصوابه، وهو يغني ويهذي بكلام لم يفهمه حفار القبور ..!
 
طوال تلك الليلة، والرجل الغريب يحاول الحفر، صائحا: "سأحفر قبري بيدي". أما الحفار، فقد أشتد ضيقه وهو يحاول اقناع الرجل، قائلا له: لا تقلق، أنا من سيحفر لك قبرك بشكل متقن، أذهب إلى بيتك كي تموت أولا ..!
 
كانت ليلة عصيبة؛ استاءت فيها حالة الرجل الغريب، وهو يبتلع عقاقير كثيرة، وحفار القبور لا يدري ماذا يصنع به؟!
 
عند الفجر؛ بدى أن الرجل يلفظ أنفاسه الأخيرة، وهو يصارع الموت حقيقة ..! وكحفار قبور مخلص، حاول مساعدته على نطق الشهادتين، لكنه مات وهو يهذي: "سأحفر قبري بيدي".
 
في الصباح؛ تكفل صديق الحفار بأمر الرجل الغريب ومعرفة أهله وقصته. لقد كان دكتورا في الجامعة، لديه أعلى الشهادات، لكنه كان يموت جوعا وفقرا في بيته..! 
إنه ذات الفقر الذي اضطر الحفار لاستخراج هذه الشهادة. الفقر الذي جمع بين ذوي الشهادات الرفيعة، ومن هم على شاكلته. ولولا إغراء صديقه باستخراج هذه الشهادة من أجل أطفاله؛ ولولا توسلات زوجته؛ ما كان أقدم على الموافقة واستخرجها؛ ما كان هذا سيحدث أبدا ..
 
الجوع الذي يلهب جوف صغاره، يمزق أحشاؤه هو. وكل أولئك الذي يلحقون موتاهم، إلى مقبرته، صار يود لو يعطيهم هو، فحال الناس يرثى له ..
 
لو أن تلك المرأة الخيرة، التي أخبره عنها صديقه، لم تشترط مساعدة عائلته إلا بهذه الشهادة..، لكنها سيدة محسنة على كل حال؛ تعطي مالها لأشخاص ليسوا حتى من بلدها.
 
وعاد ليفكر: من الغريب حقا، أنه لم يتسلم في حياته شهادة واحدة تدل على وجوده في هذه الحياة..! لكنه الآن يتسلم شهادة وفاته التي تثبت أنه ميت، كي تحصل عائلته على مساعدة مالية ..
 
تنهد بحسرة: على أية حال، يبدو أنني لم أكن حيّا منذ البداية، ما دمت أعيش في مقبرة ..!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر