قبل السد وبعده


نور ناجي

لم تنل كارثة طبيعية من اليمن كتهدم سد مأرب في منتصف القرن الخامس الميلادي. حدثٌ غير منعطف التاريخ اليمني، تغيرت على أثره طبيعة الأرض وجغرافية توزيع السكان بما عليها من وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي.
 
لك أن تتخيل القوة والارادة التي اكتسبتها اليد العاملة على السد وهي تقطع الجبال لتعيد غرسها وربطها بمسامير من النحاس والرصاص لتصبح سدا منيعا ضد إهدار مياه الأمطار ووحشية عبورها في أكبر مشروع اقتصادي عالمي في ذلك الوقت المبكر.
 
اكتسب اليمني قوة السد وثباته خلال بنائه، وحاكى صلابته بعد اتمامه البناء، ليتحكم بأهم الطرق التجارية البحرية، بالإضافة إلى القوة الاقتصادية المتمثلة في سلة غذائية لا يستهان بها في عمق الصحراء.
 
عرفت تلك الشخصية- وقبل نزول الاديان السماوية- التوحيد، واختارته بإرادتها الحرة. وإن فضلت غير ذلك، كانت إرادتها هي المتحكم في ذلك التفضيل. فلا يمكن لأمر أو قرار أن يجبر اليمني على الخضوع له، سوى قوة منافسة أو أكثر غلبة.
 
اهتزت شخصية اليمني مع اهتزاز دعائم السد، وأصيبت روحه بالهزيمة مع كارثة تحطمه وردمه ببقايا الطمي، ليجد صاحب الارض نفسه مرغماً على الرحيل بحثا عن الأمان، بهجرات متتالية تختلف عما سبقها من هجرات توسعية، وصعد من قرر البقاء للجبال بتوجس من غدٍ بلا سد أو سند، لا يملك غير الاعتماد على سحابة ثقيلة قد تمن عليه بقطرات مطر وهو يهيئ لها منحدرات الجبال لاستقبالها. لعل الاكثر حظاً هو الذي انتقى مصبَّات الأودية والسواحل، فرزقها لن يجبره على تحمل قلق الترقب..!
 
اليقين في النفس البشرية هو سر استمرارها في الحياة. لعل فقدان اليمني مصدر قوته ويقينه في قوة السد، أوصلته لحالة شك وقلق نتيجة الحياة غير المستقرة الجديدة عليه، فبحث عن يقينه في السماء عبر الأديان وثباتها بلهفة غير معهودة. فلم يعد فيه ذلك المتباهي بمدن لا مثيل لها في البلاد، أو المتجبر الذي يحفر الاخاديد رفضاً لدين لا يروق له...!
 
استمر في البحث عن البدائل، ضماناً لاستمراريته حتى وصلت قوافله لمبايعة الرسول محمد (ص) في المدينة، التي كان اليمنيون القاطنيين فيها أول من ساندوا دعوته وآزروها.
 
من ينظر إلى التاريخ اليمني بعد فترة انهيار السد، قد يجد أن اليمن- في الغالب- لم ترفض استقبال دين أو دخول مذهب، ولم تحارب فكرة عبرت حدوده. تقبل جميع من هاجر اليه متساهلا، وفتح لهم مجالا للنمو والتوسع، بل وللحكم. وعندما ارتفعت اسلحته ضدهم، لم تكن حربه ضد الفكر، بقدر ما كان عدوه الحقيقي سياسة الحكم الظالمة، أو تحدي إرادته في استعادة حقه الطبيعي بحكم أرض اجداده.
 
قد يندرج الحديث عن تهدم السد تحت باب معرفة التاريخ المثير للاهتمام، لكن ذلك لا يمنع تساؤلات تطل بين الحين والآخر في إمكانية استمرار شعور اليمني بتهدم السد حتى اليوم؟! أو أن ما يعانيه من حرب، تلخيص لمعضلة التخلص من أرث تساهل قديم؟! أم أنها فرضية لا تصلح للنقاش؟!..
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر