لم تكن طريق جل الثورات مفروشة بالورود، بل كانت تشبه السير على الجمر. ثم أن، ليس كل ثورة كُتب لها الحياة. فبعضها وئدت في مهدها، وبعضها الآخر هُشمت عبر سنين لتتهاوى في نهاية المطاف.
 
إلا أن الثابت هو: أن الانتفاضات، التي لم يكتب لها الانتصار، راكمت ذاكرة ثورية في الذهنية الشعبية، وأصابت الواقع الاجتماعي بتغييرات لا تسمح بالعودة إلى النسخة طبق الأصل التي كانت سائدة قبل الثورة. وهما عاملان يحملان فتيل ثورة أخرى في المستقبل القريب، أو المنظور، وحتى البعيد.
 
إن عمليات الانتقال السياسي تستغرق وقتاً طويلاً، يُقدّر بالسنوات، وقد يصل أحيانا إلى عشرات السنوات. والدول التي تشهد هذا النوع من الانتقال، تواجه مخاطر الثورة المضادة، أو الانزلاق إلى العنف واختطاف الثورة.
 
كان من الواضح للمتابع، أن ثورات الربيع العربي لن تنتقل إلى السلم والاستقرار الدائمين مع وجود كل هذه الانقسامات العميقة التي عصفت وتعصف بها، وكل هذا الهجوم الذي تقف من وراءه المصالح الدولية والإقليمية، التي كشرت في وجهها. وفي لحظة صراع واستقطاب حاد، عُمينا عن رؤية النسور التي كانت تنتظر لحظة وقوع الفريسة في الشراك لتبدأ بنهشها، غير آبهة بمصالح الشعوب وأحلامها ..!
 
 لم نكن بحاجة لكل هذه الخلافات داخل صف التغيير. وكان الأحرى بنا أن نكرس جهودنا لمزيد من المصالحة الوطنية، ورأب الصدوع، لنتصدى لحالة الاستقطاب السياسي الذي مزق لحمة الثوار، وفتح الباب على مصراعيه أمام الصراع الدولي والإقليمي، وهو ما وفر للثورة المضادة ظروفا أكثر ملاءمة لهزيمة الربيع وكبح جماحه.
 
اندلع الربيع وسط واقع اجتماعي متلهف للخروج من حالة موته السريري. كما كان واضحا؛ أن رياح الربيع دفعت الخط الوطني خطوات كثيرة إلى الأمام، ساعية نحو التغيير وإسقاط الأنظمة المتهالكة، ما أحيا في ذهنية المواطن العربي- المثقل بشعور الهزيمة والانتكاسات في قضاياه المحلية والقومية- أمالا كبيرة، بالنسبة للمستقبل وآفاقه الرحبة المأمولة والمشبعة بمطالب العدالة والحرية ودولة المواطنة والقانون والتقدم الاجتماعي على الصعيدين الوطني والقومي.
 
إلا أن المشاكل التي كانت ماثلة أمام هذا الربيع، كانت أكبر من مقومات تماسكه التي تضمن استمراره في التحليق وتحطيم كل الفخاخ والأسوار التي نصبت في طريقه. عانى الربيع من الثورات المضادة التي تم تغذيتها من خارج حدوده، وللأسف؛ حتى من أولئك الزاعمين أنهم يحملون مشاعل الحرية والديموقراطية.
 
 لقد دفعت الثورات المضادة، بما خلفته من حروب ودمار وإفقار واستبداد، الكثير من ثوار الربيع للتساؤل: هل كانت إنجازات عملية التغيير بمستوى طموحات المواطن العربي؟ وهل كانت الثورات في وقتها المناسب؟ هكذا تساءل الكثيرون، مقارنين بين الأمس واليوم، خاصة بعد وصول المواطن في دول الربيع إلى حالة تشاؤمية كبيرة سببتها الثورة المضادة ..!!
 
حتى رأينا الكثير من الثوار يحجمون عن فكرة المضي قدما بثورتهم مهما كانت التضحيات. وهذا دليل على أن الواقع المؤلم، وشديد التعقيد، الذي أنتجته الثورات المضادة، نجح في تهشِّيم الوعي المجتمعي، وخلق مجالا خصبا لتنامي المشاريع الصغيرة التي فاقمت المآسي وتسببت بصدوع عميقة، رأسية وأفقية، في جسد الثورة. صدوع استنزفت إرادة الإصرار والجموح الثوري لدى الثوار الحالمين.
 
على القوى التي مثلت روافد الخط الوطني أن تبحث عن الخيارات المناسبة لإعادة رص صفوفها، وألّا تقف مكتوفة الأيدي حيال شعور الجماهير بالانكسارات وظلامية الواقع وغياب أية مؤشرات للتغير. لابد لقيادات القوى الوطنية أن تستشعر خطورة الحالة الانفصامية بين الآمال والطموحات من جهة، والواقع المحطم من جهة أخرى. مالم فإنها ستصبح هدفا للقريب والبعيد.
 
في الأول والأخير؛ لابد من قوة وطنية تناضل الآن، أم بعد قرن. الوطن لن يُستعاد إلا بقوة وطنية تناضل بعيدا عن الاستقطاب، وعن كونها أداة في صراع أكبر من اليمن. كما يفترض بمرحلة التهافت وغياب الثقة، التي نخرت الأحزاب، أن تنتهي.
 
 لابد أن تعود الأحزاب لتناضل كما كانت قبل مرحلة الحرب. كان الناس حينها يعتمدون في نضالهم على الكفاف، لكنهم كانوا أكثر صلابة، وكانت نضالاتهم تثمر انجازات وطنية أيًّ كان حجمها.
 
 إن بقاء الأحزاب السياسية على حالها الراهن، سيجعلها عاجزة عن مغادرة المربع القاسي، مربع التيه في مرمى عواصف الاستقطاب الاقليمي والدولي.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر