تجريف العقول


نور ناجي

 ستنتهي الحرب قريبًا. أرددها برغم الخيبات التي تطرق رأسي منذ بدايتها الأولى. أسهل الطرق للتخلص من الدمار المحيط بك هو رسم صورة للغد والتفكير في ما يجب عليك إنجازه.
 
نحتاج للكثير من العمل والمجهود ونكران الذات لنقفز باليمن عقب هذه المحنة.
 
الدمار الذي أصاب البنية التحتية للبلد، من وجهة نظري، هي أسهل الصعاب التي ستواجهنا. تأكدت من أفكاري وأنا أرتب أوراق امتحان نهاية الفصل الدراسي الثاني للمرحلة الثانوية. توقفت أمام إحدى تلك الأوراق وقد احترت في رقم الجلوس المكتوب عليها، توقعت في البداية أن في الأمر لبس وقع فيه مراقب اللجنة جعله يستبدل ورقه بأخرى، فالرقم (775)، بعيد كل البعد عن (885)..!!!
 
لم آخذ الكثير لأتأكد بأن الطالب هو من أخطأ في كتابة الرقم، قلت في نفسي لعله يعاني من مرض التوحد، فقد سمعت بأن من يصاب بهذا المرض يفقد القدرة على تمييز الأرقام، حتى صدمني خط الطالب الذي لم يكن مختلف عما نراه في قصاصات المشعوذين، هل كان الطالب يحاول القاء تعويذة ما على مدرس المادة، لكن حظي السيء اوقعني في مسارها؟!
 
صوبت الرقم، محاولة أن لا استفز ما على الورقة من "أعمال"، وتركتها بهدوء بين يدي المصحح، لم أنسى أن اسأله عن مستوى الطالب، لأتفاجأ به ينظر اليّا ممتعضا دون أن يجيب وهو يغادر غرفة الكنترول، لعله يستحق ما سينال من الأوراق!!..
 
لم يهتم بقية المدرسين بسؤالي عن الطالب ومستواه، يبدو أن وجود طالب في المرحلة الثانوية لا يجيد القراءة والكتابة أمر مألوف، "يكفي حضوره للامتحانات حتى ينجح" كما قال أحد المعلمين. أعترف بأني كنت قد تغيبت عن الدوام لفترة طويلة، تستطيعون ادراجي ضمن جماعة "الطابور الخامس" قبل أن يُكسر عنادي وأعود صاغرة للسخرة.
 
لاحظت، في فترة التزامي القصيرة، التناقص الشديد في أعداد الطلاب. ما تستوعبه ساحات المدارس هو تقريباً نصف العدد الذي كانت تستقبله قبل الحرب. البعض ممن سنحت لهم الفرصة أنتقل إلى مدارس خاصة انتعش سوقها، والبعض ترك المدرسة التي أصبحت رفاهية لا فائدة ترجى منها، فالبحث عن مصدر رزق أجدى من سد طريق الجهل!! سيئوا الحظ أولئك الذين مورست عليهم أبشع عملية غسيل للدماغ، نقلوا على إثرها للجبهات ومنها إلى المقابر..!
 
ومن تبقى في المدرسة شارك المعلمون والإدارة التربوية والوزارة في أسخف كذبة يمكن أن يعيشها بلد؛ تمثيلية يمارسها الجميع بالادعاء بأن كل شيء يسير على ما يرام؛ الطلاب يدعون تلقيهم العلم، والمعلمون قسّموا أيامهم بين غياب وحضور لا تختلف محصلتهما، والإدارة ترفع التقارير اليومية الخالية من المشاكل للمناطق التعليمية والوزارة..!
 
الجميع يتفاخر بأن كل شيء يسير وفق الخطة المرسومة، وحدها المباني الحجرية الشاهدة على ما يجري هي من تفتح فمهما فاغرة للنتيجة النهائية التي لم يرسب فيها أحد...!!
 
على من نلقي اللوم؟!..

كيف نحاسب المعلم؟ رب الأسرة العاجز عن سداد متطلبات عيشه الحاف، وقد أصبح نصف كيلو الرز والبطاط حمل ثقيل عليه، مشقة يمضى نهاره في البحث عن ثمنها وكل من حوله ينظر إليه بريبة..!!
 
نلقي اللوم على الإدارة التعليمية، المهددة على الدوام بوجه مشرف الميليشيا، الزائر اليومي لمراقبة تغيير جلد المجتمع، وللبحث الشره عن فرائس محتملة للجبهات؟!..
 
أخطأنا منذ البداية حين انتظرنا من ميليشيا التزامها القيام بمهام الدولة!! لا تحيا الميليشيا إلا بإسقاط الدول، وليس تنظيم شؤون المواطنين وتعليم أبنائهم من ضمن أهدافها..!
 
لم يكن يجدر بالحكومة الشرعية أن تتصرف مع الميليشيا كضرتين تتقاتلان في سبيل النصر، غاضة بصرها عن تجريف العقول المترتبة على هذا الصراع..!!
 
هل ستعمل على تدارك الخطيئة التي وقعت بها وتعيد التزامها الحقيقي تجاه مواطنيها، أم ستضطر لحمل عبء اضافي على ظهرها بعد الحرب؟!

وهل سيغفر جيل الشباب ما صنعت به السياسة، أم سيقحم ما مورس عليه في مستقبل يدفع ثمنه غالياً؟!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر