متاهةٌ اسمها اليمن!


محمد علي محروس


في مطلع النصف الثاني من القرن الثامن عشر، توجهت بعثة استكشافية أوربية من الدنمارك صوب العربية السعيدة – اسم اليمن قديماً – لسبر أغوار البلاد، واستكشاف بكارتها، والتعرف على مضامين احتوتها التوراة، كتابهم المقدس، كما كانوا يقولون.
 
بعد ست سنوات من الرحلة الاستكشافية، لم يعد من أفرادها إلا "كارستن نيبور"، الذي حكى قصة مأساة استكشاف العربية السعيدة، لينشرها لاحقاً الكاتب الدنماركي "توركيل هانسن" في كتاب أسماه "من كوبنهاجن إلى صنعاء".
 
هكذا فعلت اليمن بمن دخلها مستكشفاً، أذاقته ويلاتها، فمنهم من ابتلعته الصحراء، ومنهم من ذهب طعماً لحوت البحار، ومنهم من لقي حظه من الأوبئة المنتشرة حينها.. تاريخياً، أيضاً، لقّنت اليمن مستعمريها عبر العصور، دروساً لا مثيل لها في التضحية والتحمّل، ولم تخضع إطلاقاً، حتى للدول الإسلامية التي جمعتها كولاية تحت سقف الخلافة، فشهدت في عدة مراحل عصياناً في وجوه الخلفاء لمجرد سوء المعاملة، أو محاولة الابتزاز، والشواهد على ذلك متعددة في التعامل مع المستعمر الخارجي أو المستبد الداخلي.
 
اليمن متاهةٌ لكل من يحاول المساس بسيادتها، واليمنيون ذوو أنفة تقارع الوجود حين يتعلق الأمر بكرامتهم وتربة وطنهم، لا ينتمون إلا إليها، ويركنون خلافاتهم جانباً للتوحد في وجه من يهدد أرضهم وكرامتهم.
 
إلى حد ما، لا تُلقي القوى الإقليمية المتحالفة بالاً لهذه المسلّمة، وتحاول دولة بعينها استفزاز اليمنيين من حين لآخر، بممارساتٍ تتناقض مع ما هو معلن، من باب التبرير المنطقي للتواجد على الأراضي اليمنية، وأكثر من ذلك، لا تعير اهتماماً لتطلعات الشعب ومطالبه المرحلية، وتستميت في تقسيمه؛ بما يحقق أهدافها الملفوفة بمآرب لا نعرفها سوى من جملة الانتهاكات المرتكبة بحق الوطن والمواطن.
 
لا تُدرك القوى المُنتَهِكة أن اليمن استثناءٌ وجودي وتاريخي؛ إذ ليست كمصر ولا ليبيا ولا حتى سوريا، فالتوافق الذي شكّله مؤتمر الحوار الوطني، عبر الأسس المتينة لثورة الـ11 من فبراير، لا يزال هو الحامل لآمال اليمنيين نحو دولة اتحادية جامعة، أوشكت شمسها أن تشرق، بسواعد جيشها الوطني، وبمساندة شرفاء اليمنيين، ومن ليس لهم أطماع من دول التحالف العربي، مهما حاولت تلك القوى استغلال مرحلة الضعف بواسطة أدواتها المدنية المزودة بدعم غير عادي، أو حلفائها العسكريين الذين لم يستطيعوا تحقيق شيء يُذكر، وعند أول اختبار فعلي سيكونون إلى جانب جمهوريتهم، أو حتى تشكيلاتها المليشاوية المنبثقة من قلب أطماعها المحلية في مناطق الثروة، وتلك أوهن من بيت العنكبوت في حال دقت ساعة الحقيقة، وأحداث عدن الأخيرة أثبتت ذلك، عندما لم تتحول الموازين إلا بتدخل جوي وبتحرك القوات المنقذة للفصائل الانقلابية، وانتهت باتفاق أجوف!
تبتلع اليمن من يكيد لها، وإن أظهر حبه، وحاول أن يلف ويدور باستخدام شعارات جوفاء، ومشاريع استغلالية، ظاهرها الوقوف إلى جانب اليمن، وباطنها الالتفاف على حقوق اليمنيين ومحاولة اغتصاب سيادة البلاد.. ليس الفقر أداة للانصهار من أجل لقمة العيش، أو شظف المعيشة، أو حتى قطرة ماء وكسرة خبز؛ يمكن بواسطتها كسر هيبة اليمني والتحكم بمصيره، والتسيد على ممتلكاته، لو كان الأمر هكذا، لاستمرت بريطانيا بعظمتها العسكرية إلى اليوم، لكنها رحلت مع أول صرخة من ردفان، ولو كان اليمنيون يميلون إلى الانجرار وراء جماعة أو سلالة لاستمرت أسرة حميد الدين على عرش المملكة المتوكلية ولَبسطوا الأرض للحوثيين لاستحكام قبضتهم، دون عناء المواجهة والمقاومة، ولكن هناك من لم يعِ الدرس بعد ولا يؤمن إلا بدروس تطبيقية تواكب الحداثة والتجديد الذي يدعيه زيفاً وبهتانا.
 
سيصل هؤلاء إلى قناعة المغادرة قسرا، ولن يتم مخططهم على الصورة التي جيشوا لها أدواتهم المدنية والمليشاوية، وسيخيبون حتماً؛ لأن اليمنيين طلبوا المساندة المشروطة، وليس الاحتلال والابتزاز والتعدي دون احترام للثوابت والمبادئ والمكتسبات الوطنية.. دون هذا لن يكون لهذه القوى أي تواجد فعلي مهما توحشوا واستبدوا، فالنهاية السوداء مصيرٌ محتوم للنوايا السوداء مهما تجمّلت وتحسنت.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر