في طريق الدم: الحرب الأمريكية على الإرهاب في اليمن

[ الباحث الأستراتيجي اليمني "علي الذهب" ]


منذ عام 2002، تواصل الولايات المتحدة برنامجا خاصا لمحاربة الإرهاب في اليمن، على إثر استهداف تنظيم القاعدة مدمرتها البحرية الشهيرة "يو إس إس-كول" قبالة شواطئ عدن، جنوب اليمن، عام 2000.

وبعد مرور عقد ونصف خلت، هاهي الصورة تتكشف عن: مشهد غارق بدماء اليمنيين، يُمعن في تضخيمه، يوما إثر آخر، كلا الطرفين: أمريكا وتنظيم القاعدة، ومعهما حلفاء الداخل والخارج، ضمن فصول من العبثية واسترخاص الدماء، التي يبدو أن لا نهاية لها، إلا بلفظ آخر عنصر في التنظيم أنفاسه، أو – ربما - بوضع سلاحه عندما يجد نفسه وحيدا وقد أبيد كل من حوله!

 نجاحات في طريق الدم

 مع أواخر عام 2011، بلغت العمليات الجوية الأمريكية ذروتها، لتحقق نجاحات كبيرة باصطياد قيادات تنظيم القاعدة في اليمن، الواحد تلو الآخر، بدءا بالزعيم الروحي للتنظيم الشيخ "أنور العولقي" بطائرة دون طيار أواخر سبتمبر/أيلول 2011؛ ثم القيادي في التنظيم "فهد القصع"، المدرج على رأس القائمة الأمريكية للمطلوبين الدوليين الأكثر خطورة، والذي تم اصطياده بضربة جوية في محافظة شبوة مطلع شهر مايو/آيار 2012؛ تلاه نائب زعيم التنظيم، "سعيد الشهري"، في نوفمبر/تشرين الثاني 2012؛ وصولا إلى زعيم التنظيم في جزيرة العرب "ناصر الوحيشي"، في يونيو/حزيران 2015. 

"على مدى عقد ونصف من عملياتها، حققت أمريكا نجاحات محسوبة أهمها اصطياد قيادات كبيرة في التنظيم الإرهابي، لكنها أيضا خلفت مآس أنسانية بقتلها مدنيين كُثر"

 

إلى جانبهم، تضم القائمة، كذلك، مجموعة من القادة الميدانيين والتنظيريين الذين مر التنظيم في عهدهم بمرحلة ذهبية قد لا تتكرر، مثل: جلال بلعيدي، ومأمون حاتم، ونصر الآنسي، الذين قضوا خلال عام 2016.

 برغم تلك النجاحات، إلا أن العمليات الجوية الأمريكية لم تخلُ من إخفاقات تخللت هذه المحطات وخلفت أطيافا من المآسي الإنسانية الفضيعة.

 

صورة دموية عالقة في المنتصف

 في ديسمبر/كانون الأول 2009، أطلقت طائرات أمريكية دفقة من صواريخ كروز- توماهوك، على بلدة "المعجلة" بمحافظة أبين – جنوب اليمن، لترسم أكثر المشاهد دموية في معركتها مع الإرهاب، حيث أزهقت فيها أرواح أكثر من أربعين مدنيا، أغلبهم نساء وأطفال وشيوخ.

على الرغم من تكرار حوادث مأساوية مشابهة، وإن بحجم أقل، إلا أن الصورة المأساوية التي خلفتها هذه العملية، غير قابلة للمقارنة، منذ أول عملية نفذها الطيران الأمريكي في إحدى فيافي محافظة مارب عام 2002.

في ديسمبر/كانون الأول 2013، قصفت طائرة أمريكية دون طيار موكب زفاف في منطقة رداع بمحافظة البيضاء، ما أودى بحياة 12 شخصا وإصابة 15 آخرين، بحسب تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش”.  وقد برر الجانب الأمريكي ذلك، بأن العملية كانت تستهدف قياديا في تنظيم القاعدة، فالتبس الأمر بين الموكبين، لتطوى العملية مثل غيرها، بينما لا تزال آثارها عالقة في وعي أهالي الضحايا واليمنيين عموما.

2017: تصعيد أشد بمبررات جديدة

مؤخرا، مع بداية العام الحالي 2017، تطورت العمليات الأمريكية لتصل إلى تنفيذ محاولات اعتقال مشفوعة بقتل الأبرياء، عبر عمليات إبرار جوية مسنودة بهجمات لطائرات مروحية ودعم طائرات دون طيار(الدرونز)، كما حدث في بلدة "يكلا" الصغيرة بمحافظة البيضاء وسط اليمن، في 29 يناير/كانون الثاني 2017، التي سنفرد لها محورا خاصا.

وفقا لبيان أصدرته وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) في الأسبوع الأول من مارس/آذار 2017، شن الطيران الأمريكي، خلال بضعة أيام، 30 غارة على معاقل جماعة أنصار الشريعة التابعة لتنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب باليمن، شملت ثلاث محافظات، هي: البيضاء، وأبين، وشبوة. الأمر الذي كشف عن تحول كمي ونوعي غير مسبوق في مواجهة التنظيم منذ بدء هذا البرنامج عام 2009، خصوصا إذا ما علم أن الإجمالي السنوي للغارات في العامين 2012 و 2016، بلغ على الترتيب 41 و 38 غارة جوية.

مع أن هذا التحول بدا عنيفا، إلا أنه أصبح مسألة غير قابلة للتأجيل من وجهة نظر الإدارة الأمريكية تجاه ما تعده أخطر الشبكات الإرهابية المهددة للأمن القومي الأمريكي وحلفائها في المنطقة، الذين مثلت اليمن بالنسبة لهم، ساحة بديلة لطرد متطرفي بلدانهم إليها، في ظل سيادة مشهد إقليمي مكتظ بالجماعات المتطرفة، ابتداء من غرب آسيا حتى شرق وشمال إفريقيا؛ لذلك كان القصد من هذه الهجمات – على ما يبدو - حرمان التنظيم من القيام بعمليات إرهابية متوقعة، بالتنسيق مع بعض تلك الجماعات.

الأمر الذي لا خلاف عليه، أنه لو أطلق لتنظيم القاعدة العقال في اليمن، لتضخم على نحو ما وصل إليه في أفغانستان في زمن قياسي، خاصة أنه يتمركز في مناطق استراتيجية تؤهله لبلوغ ذلك، لعدة أسباب، أبرزها وأهمها: ما توفره هذه المناطق من خصائص جغرافية تلائم طبيعة نشاط التنظيمات الجهادية؛ ولقربها من مصادر الطاقة ووسائط نقلها؛ ومشاطئتها المجال البحري؛ ومحاذاتها لدول تعد هدفا أصيلا للجماعات الإرهابية؛ فضلا عما يتمتع به عناصر التنظيم من قبول شعبي، وقدرتهم على خلق علاقة حميمة بينهم وبين السكان المحلين في تلك المناطق، أساسها الحامل المذهبي الموحد، وجسر الفجوة الخدمية الناشئة عن غياب سلطات الدولة، رغم فساد بعض أجهزتها التي كانت مدعاة لظهور التنظيم وتمدده.

تحولات خشنة بملامح فاشلة

كانت أولى مؤشرات تحول السياسة الأمريكية تجاه القاعدة في اليمن، العملية العسكرية التي استهدف بها الجيش الأمريكي بلدة "يكلا" بمحافظة البيضاء، وسط اليمن، في 29 يناير/كانون الثاني 2017، التي نفذت بالتعاون مع القوات المسلحة الإماراتية، التي سبق أن لعبت دورا مماثلا إلى جانب قوات من الجيش اليمني في استعادة مدينة المكلا من قبضة أنصار الشريعة، في إبريل/نيسان 2016.

كان الملفت في تلك العملية، أنها جاءت بعد تسعة أيام فقط، من خطاب الرئيس الأمريكي الجديد "دونالد ترامب"، الذي ألقاه أثناء حفل تنصيبه في 20 يناير/كانون الثاني 2017، وتوعد فيه بنسف ما وصفه بـ"التطرف الإسلامي"، فكانت العملية، كما يبدو، ترجمة لذلك الخطاب، ولتكون مفتتحا لمعركة جديدة مع الإرهاب يغلب عليها طابع الإثارة والانتهازية، كأبرز صفتين لترامب نفسه.

لقد كشف الحشد الكبير لعملية "يكلا"، وما تلاها من تكثيف ملفت للهجمات الجوية، أن الإدارة الأمريكية تحاول، إلى جانب أهدافها الآنية المرصودة، التحرر من خيبة الأمل التي خلفتها معاركها الطويلة والمنهكة مع التنظيم، ولتؤكد أن الإرهاب تهديد يمس الأمن القومي الأمريكي، بدرجة أولى، لا الأمن الدولي والإقليمي فقط. وأن التحول في المواجهة ما هو إلا امتداد مطور لجهود إدارة أوباما، التي لم تكن الطائرات بلا طيار تبرح المجال الجوي اليمني طيلة السنوات الخمس الماضية من ولايته. 

"بالنظر إلى الإمكانيات التي حشدت لاستهداف منطقة "يكلا"- محافظة البيضاء، فإن هذه العملية طبقا لمعايير الربح والخسارة العسكرية لم تحقق نصرا لائقا"

 

بالنظر إلى الإمكانيات التي حشدت لاستهداف منطقة "يكلا"، من حيث حجم القوة البشرية المهاجمة وعدد الطائرات وأنواعها، والتعاون اللوجستي الإماراتي، والخسائر التي تكبدها الجيش الأمريكي، فإنها – طبقا لمعايير الربح والخسارة العسكرية - لم تحقق نصرا لائقا. حيث لم تأسر أحدا من رجال التنظيم المفترضين، لا سيما أن عمليات من هذا النوع (يتم فيها إنزال جنود قوات خاصة ومؤهلة على الأرض)، عادة ما تهدف إلى اعتقال عنصر قيادي بارز أو عنصر ذي أهمية خاصة في التنظيم، وهي سياسة معلنة منذ ولاية أوباما، الذي عبر عنها في أحد تصريحاته بالقول: "إن الغارات لا تشن إلا في حالة عدم امتلاك القدرة على الإمساك بالإرهابيين"، في إشارة إلى أن العمليات من تلك التي جرت في منطقة "يكلا"، يُستهدف من ورائها اعتقال مطلوبين على درجة عالية من الأهمية.

ما يضاعف من حجم هذا الفشل، الانكسار في مواجهة غير متكافئة، مثّل فيها الأمريكيون الطرف الأقوى والمتحكم بعنصري المفاجأة والمبادأة، مع خسرانهم أحد الجنود وإصابة ثلاثة آخرين إصابات بالغة، وتحطم مروحية حديثة قيمتها 75 مليون دولار، وخسائر أخرى غير معلنة، فضلا عن السقوط القيمي في انتهاك القانون الدولي الإنساني بقتل مجموعة مدنين أبرياء، ضمنهم شيوخ ونساء، وطفلة لم يتجاوز عمرها ثمان سنوات.

أبعاد انتهازية في سياقات مقبولة

تثير التهديدات الأمنية الناشئة عن الإرهاب أو النزاعات المسلحة الداخلية أو غيرها، حول منابع النفط في منطقة الشرق الأوسط، قلقا مضاعفا لدى الولايات المتحدة، عن تلك التي تثيرها هذه التهديدات في مناطق أخرى. ويشاركها في هذا القلق الاتحاد الأوروبي، إلا أن القطبية الأمريكية وتصدرها مشهد المواجهة، دائما ما تطغى على دور شركائها، علاوة على احتكارها ملف الإرهاب في دول معينة، مثل: اليمن، والصومال.

مهما يكن من أمر التهديدات التي يثيرها وجود تنظيم القاعدة في اليمن؛ نظرا لقربه من دول منابع النفط الخليجية، واحتمال توسع نشاطه في محيطها، إلا أن الواقع يقول إن القاعدة، أو تنظيم داعش الذي بدا ظهوره غامضا وحيزه محدودا فيها، ما هما إلا مخلب قط وذريعة مكشوفة لتدخل القوى الاستعمارية، وستزداد انكشافا في المستقبل؛ على أنه لا يمكن، في الوقت ذاته، إنكار خطر التنظيمات المتطرفة ومثابرتها المستميتة لتحقيق غاياتها.

للأسف الشديد أنه، وبهذه الانتهازية ذاتها، سيجري التعاطي طويلا مع ملف الإرهاب في اليمن والمنطقة عموما. وهو تعاطٍ مجرب مع عدد من القضايا في المنطقة، أبرزها: القضية الفلسطينية، والملف النووي الإيراني. بل إن هنالك ما هو أقرب إلى الاستدلال به في هذا الشأن، وهو توظيف هذا الملف في التهيئة لصعود الحوثيين والدفع بهم إلى سدة الحكم، وجر اليمن إلى صراع غامض قد تملي الولايات المتحدة على فرقائه، في مرحلة تشبعها منه، حلا سياسيا يتيح "دخول الدويلة الحوثية الشمالية، المحاصرة أكثر فأكثر، ضمن دائرة النفوذ الإيراني، مما يعطي حجما أكبر لنداء الجهاديين في الجنوب"، على حد توصيف الخبير بمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى "أندرو إنيجل". وهكذا تُستفز رحى الصراع من وقت إلى آخر.

في سياق التهديدات الإقليمية والمصالح الدولية، يمكن القول إن انهيار الدولة في الصومال أعطى درسا مفيدا للولايات المتحدة وللدول الغربية كذلك، في ما يمكن أن يشكله اليمن من خطر على مصالحها، في حالة انزلاقه إلى وضع مشابه للحالة الصومالية، بل ربما لما هو أبعد منها؛ لأسباب تتعلق بتركيبة اليمن المذهبية، وتعقيدات الصراع المتشابك مع أطراف إقليمية تعد المحرك الأكبر لعجلاته. لذلك تطور التعاطي مع القاعدة سريعا، من أقوى إلى أشد قوة، إلا أنه قد تُستغل الأطراف الداخلية، المنشغلة بالحرب أو بمرحلة ما بعدها، لتكون مجرد خادم مطيع على تحقيق المطامع الاستعمارية في سياق السلم المشترك.

من جانب آخر، وبتصور استشرافي لما قد يؤول إليه الوضع الأمني في خليج عدن، في ظل وجود دولتين فاشلتين على ضفتيه، هما اليمن والصومال، لا سيما مع عودة القرصنة باختطاف ناقلة نفط وطاقمها الملاحي في منتصف مارس/آذار 2017، علاوة على تنامي بعض مناشط الجريمة المنظمة العابرة لحدود الدول، وتخادمها مع الإرهاب؛ فإنه لا يمكن إغفال خشية الولايات المتحدة من إمكانية استعادة القاعدة المدن المشاطئة لخليج عدن وبحر العرب؛ حيث لا يزال استهداف المدمرة الأمريكية "يو إس إس-كول" بميناء عدن عام 2000، وناقلة النفط الفرنسية "ليمبورج" قبالة مرفأ "الضبة" بحضرموت عام 2002، درسان يستحيل نسيانهما.

تداعيات إيجابية؛ ولكن..

لو نظرنا بإيجابية إلى العمليات التي ينفذها طيران الجيش الأمريكي بوتيرتها الراهنة، وبغض الطرف عن نتائجها المؤسفة في صفوف المدنيين، والأهداف الخاصة من ورائها؛ فإنها قد تمثل دعما للسلطة الشرعية، على طريق تمكين أجهزتها المدنية والعسكرية من بسط نفوذها وممارسة وظائفها في المناطق المحررة منها، لكون هذه العمليات تمثل معركة موازية لمعركة استرداد الدولة التي يخوضها الجيش والمقاومة ضد الانقلابيين، في ظرف دقيق لا يمكن لهذا الجيش خوض معركتين مختلفتين تستنزفان قواته وتشتتها في مناطق شاسعة. 

"في المحصلة المفترضة، يظل نهج أمننة الإرهاب، عاجزا بمفرده عن التأثير في هذا المعترك المعقد، كما قد تكون نتائجه عكسية.. ولو كان هذا الأسلوب ناجعا، لكان الإرهاب في اليمن قد لفظ أنفاسه منذ سنوات"

 

في المحصلة المفترضة لهذا الجهد، يظل نهج أمننة الإرهاب، عاجزا – بمفرده - عن التأثير في هذا المعترك المعقد، كما قد تكون نتائجه عكسية! ولو كان هذا الأسلوب ناجعا، لكان الإرهاب قد لفظ أنفاسه منذ سنوات، بفعل شراسة ووحشية العمليات المختلفة التي ووجه بها من قبل الجيشين اليمني والأمريكي.

بمعنى أوضح: إن اكتمال نجاح العمل الأمني والعسكري، سيظل مشروطا بالممارسة الفاعلة والكفؤة لوظائف الدولة عبر أجهزة سلطاتها في المناطق المحررة، وإشراك السكان المحليين في حفظ أمن مناطقهم والدفاع عنها ضد عودة نشاط القاعدة، والبدء في خوض معركة أخرى رديفة، هي معركة التنمية الشاملة.

في هذا الصدد، قد يمكن رصد ملمح إيجابي على تعزيز حضور أجهزة السلطة الشرعية، لكن ليس في المناطق التي استهدفها الطيران الأمريكي، بل في تلك التي خاض فيها الجيش الوطني - بمساندة قوات التحالف العربي - عمليات ناجحة ضد أنصار الشرعية التابع لتنظيم القاعدة، كما حدث في محافظة حضرموت؛ حيث بدأت ملامح الاستقرار والتنمية في التشكل.

على الرغم من أن تهديدات الجماعات الإرهابية ما تزال واردة حتى الأن، إلا أنها قد تشهد تراجعا كبيرا، إذا ما جرى الأخذ بنهجي الأمننة والتنمية كحزمة واحدة في مواجهتها، والعمل على تعزيز نفوذ الدولة في المناطق المحررة.

---------------------------------------------------

* باحث استراتيجي في الشئون العسكرية

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر