أدهشوا البرتغاليين في شرق أفريقيا وعزلهم الهولنديون بإندونيسيا.. كفاح اليمنيين عبر الهجرات التاريخية

وصِف اليمنيون بأنهم "حليفو الأسفار راكبو الأخطار"، وقد قال الله تعالى في أسفارهم "سيروا فيها ليالي وأياما آمنين"، فردوا "ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم" فمزقهم الله وشتتهم، فكانت لهم هجرات في شرق الأرض وغربها، عانوا فيها مرارة الغربة وعنت الترحال.
 
ولئن كانت سمة الهجرة ومفارقة الأهل والأوطان مما طبع عليه اليمني على مرّ العصور، فإن الهجرات المتعاقبة تركت أثرها في نفوس اليمنيين وطبائعهم بالقدر الذي مكّنهم من الاندماج في مهجرهم مع المحافظة على بعض تقاليدهم وأعرافهم، مما أكسبهم احترام السكان الأصليين والتأثير فيهم.
 
وفي هذا التقرير، نسلط الضوء على أبرز مواطن هجرات اليمنيين -وخاصة الحضارم- والتي تركوا فيها أثرا سياسيا واقتصاديا، ولا سيما في القرنين الماضيين.
 
الهجرة إلى الشرق الأفريقي

ساهم موقع اليمن المشاطئ للقرن الأفريقي في جعلها همزة وصل بين آسيا وأفريقيا، إذ هاجرت مجموعات أفريقية إلى جنوب الجزيرة العربية ومنها إلى آسيا، كما انتقل آسيويون وعرب إلى القرن الأفريقي ومنه إلى عمق أفريقيا.
 
ويقسم الباحث صالح علي باصرة في بحثه "الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا حتى منتصف القرن العشرين"، الهجرات اليمنية إلى شرق أفريقيا إلى 3 موجات، حيث يعود أول اتصال لليمنيين بالساحل الأفريقي الشرقي إلى القرن التاسع قبل الميلاد، في زمن مملكة أوسان ثم سبأ التي تغلبت عليها وواصلت علاقتها التجارية بالساحل الأفريقي.
 
ثم نشأت في الهضبة الواقعة خلفه المعروفة بهضبة الحبشة، جاليات ظلت على صلة بالوطن الأم، كما نقل المهاجرون معهم بعضا من مظاهر حضارتهم في الفن والعمارة وصناعة الأسلحة، وقد عُثر على أقدم نقش حبشي مكتوب بحروف المسند الذي كان يستخدم في مملكة سبأ اليمنية، إضافة إلى شواهد قبور شبيهة بتلك التي كانت في جنوب الجزيرة العربية.
استمر الاتصال بين ممالك سبأ وريدان ويمنات وحضرموت التي تصارع عليها الحميريون والسبئيون والهمدانيون، وانهار على إثرها الاقتصاد اليمني بعد انهيار سد مأرب الشهير، فساح اليمنيون إلى الضفة الأخرى من البحر الأحمر وخاصة القرن الأفريقي وإثيوبيا.
 
ثم كانت الموجة الثانية من الهجرات اليمنية التي جاءت بعد ظهور الإسلام وقيام الخلافة التي ارتبطت غالبا بالفتوحات الإسلامية، إذ ساهمت فتوحات شمال أفريقيا في انسياح العرب والمسلمين عموما إلى شرق أفريقيا ووسطها.
 
وتوالت بعدها موجات من الهجرات أسهمت في توسيع الوجود العربي ونشر الدين الإسلامي على طول الساحل الشرقي، ابتداء من مصوع الإريترية مرورا بمقديشو وكسمايو الصومالية وممباسا في كينيا وزنجبار ودار السلام في تنزانيا، بالإضافة إلى موزمبيق ومدغشقر وصولا إلى جزر القمر.
 
ثم كانت آخر موجات الهجرة اليمنية إلى شرق أفريقيا نهاية القرن الـ19 والنصف الأول من القرن الـ20، وتعد نهايات الهجرة الثالثة التي هاجر فيها اليمنيون بعد أن ضاقت بهم سبل العيش في تهامة وتعز وإب وعدن وحضرموت، نهاية عهد الدولة العثمانية وزمن حكم بيت آل حميد الدين شمالي اليمن، وكذا عهد الاستعمار البريطاني في الجنوب.
 
وتمكّن عدد من المهاجرين اليمنيين من إقامة نشاط تجاري مستقل في دول شرق أفريقيا خاصة القرن الأفريقي، بينما اشتغل الأغلبية من الفقراء الأميين في أعمال البناء والزراعة والدباغة والأعمال التي تحتاج إلى جهد بدني في موانئ الساحل الأفريقي.
 
وقد نقل باصرة عن المقيم البريطاني في زنجبار "إف. بي. بيرس" عام 1919، قوله عن الحضارم إنهم "يشكلون قسما مهما من سكان زنجبار العربي، ويختلفون في مظهرهم وسعيهم للمعيشة وأسلوب حياتهم عن عرب عمان، وفي الأحوال العادية في زنجبار هم عمال أشداء يعيشون في مساكن جماعية، وبالرغم من أن بعض الأثرياء منهم قد استقروا في زنجبار، فإن الغالبية يأتون لفترات يجمعون فيها بعض المال ليعودوا ثانية إلى بلادهم".
 
زعامة في جزر القمر

وهاجر بعض أبناء حضرموت إلى جزر القمر في شكل مجموعات بشرية منذ القرن الـ14 الميلادي، وكان معظم المهاجرين من العلويين (آل البيت الذين ينتسبون إلى الإمام علي بن أبي طالب)، وقد نشروا الإسلام والمذهب الشافعي في الجزر، وباتت لهم الزعامة الروحية والدنيوية التي استمرت حتى الوقت الراهن.
 
وساهم الحضارم في قيادة الحركة الوطنية ضد الاستعمار الفرنسي التي كان من أبرز قادتها السيد محمد آل الشيخ أبو بكر بن علوي، وقد تولى رئاسة الحكومة قبل استقلال جزر القمر.
 
كما مثل السيد أحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن العلوي جزر القمر نائبا في البرلمان الفرنسي، ثم تولى رئاسة الدولة عام 1975، وأعلن استقلال بلاده من جانب واحد بعد أن طالت مفاوضات الاستقلال في فرنسا.
 
وقد أبعدته فرنسا عن الحكم ونفته إلى خارج بلاده، ثم اضطرت إلى إعادته والاعتراف باستقلال جزر القمر تحت ضغط الحركة الوطنية.
 
ونقل الكاتب حسن صالح شهاب في كتابه "تاريخ اليمن البحري" عن أحد الغربيين، قولا يلخص دور وتأثير المهاجرين العرب بعد الإسلام في شرق أفريقيا وخاصة في الشريط الساحلي، فكتب "على طول الشريط الساحلي الممتد من مقديشو شمالا إلى سفالة (في موزمبيق) جنوبا والجزر المجاورة له، أنشأ العرب مستوطنات كتلك المستوطنات التي أقامها الفينيقيون على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وشيدوا حضارة أدهش مستواها الرفيع البرتغاليين عندما شاهدوها أول مرة، وكان الدور الذي لعبه الحضارمة في بناء هذه الحضارة دورا لم يقوموا بمثله حتى في وطنهم الأصلي".
 
اليمنيون في الهند الشرقية

مثلت مدينة عدن نقطة عبور رئيسية (ترانزيت) للسفن التجارية القادمة من الهند والمسافرة إليها، ويشير كثير من المؤرخين إلى أن لليمنيين دورا كبيرا في الترويج للتوابل الهندية القادمة من موانئ كيرالا الهندية.
 
وخلال إقامتهم في كيرالا -التي كانت تسمى مليبار- انتظارا لمواسم الرياح، تزوج اليمنيون وأنجبوا العديد من الأسر منذ الألفية التي سبقت الميلاد حتى نهاية الاستعمار البريطاني للهند، كما يشير الكاتب فاروق لقمان.
وينقل المؤلف جمال النظار صاحب كتاب "الهجرات الحضرمية إلى الهند"، أن أمراء الهند وسلاطينها -ولا سيما في حيدر آباد- اتخذوا اليمنيين جنودا لهم بعد أن أعجبوا بصلابتهم وأمانتهم، فاستقطبوا المزيد منهم للعمل جنودا في حراسة القصور والقلاع والخزائن، وكانت تمنح لهم الإقطاعيات الزراعية الواسعة.
 
واتسع نطاق الهجرة في القرن الـ19 الميلادي في كثير من مدن الهند، مثل بونا وكلكتا ومومباي ووبرودا ودراس (مدراس) وغيرها، وكان معظم المهاجرين من منطقتي حضرموت ويافع، واشتغلوا بشكل رئيسي في التجارة والخدمة العسكرية ولا سيما في حيدر آباد، كما انصرف كثير منهم إلى العلوم الدينية. وقد أثرى كثير من اليمنيين هناك وحققوا مراكز اقتصادية مرموقة بعد أن وصلوا إليها وهم لا يملكون شيئا.
 
في إندونيسيا.. كفاح في الرزق والسياسة

لم يكتفِ اليمنيون بشواطئ الهند حتى ذهبوا إلى ما هو أبعد منها، فوصلوا جزر إندونيسيا رغم بعد المسافة بينها وبين شواطئ اليمن.
 
بدأت هجرة الحضارم إلى إندونيسيا وجنوب شرق آسيا عموما في نهاية القرن الـ17 وبداية الـ18، وبلغت ذروتها في نهاية الـ18 وبداية الـ19، وتمركزت هجراتهم في المدن الكبرى الساحلية مثل ميدان في سومطرة وجاكرتا وسيمارانغ وسورابايا، وكان لهم ممثل في هذه المدن للتعامل مع الاستعمار الهولندي الذي كان حريصا على عزلهم في مناطق خاصة بهم، خوفا من تأثيرهم على الإندونيسيين.
 
وتميز الوجود الحضرمي في إندونيسيا بالاجتهاد والكفاح، حيث ألجأ الفقر والفاقة كثيرا منهم إلى ركوب أهوال البحار من سواحل مدينة المُكلّا حتى وصلوا إلى جزر إندونيسيا، لتعقبها رحلة البحث عن الرزق والجد في التجارة، حتى كونوا ثروات اقتصادية بذلوها بسخاء في المجالات الاجتماعية والخيرية وفي دعم النضال القومي في مواجهة الاستعمار.
 
وقد ساهمت هجراتهم التجارية في نشر الدين الإسلامي، وأصبحت لهم أنشطة مؤثرة في المجتمع الإندونيسي، بعد أن اندمجوا فيه اندماجا كليا مع احتفاظهم ببعض العادات في الزواج والولادة والوفاة.
 
ولتدارك الضعف الاقتصادي والتشتت الإسلامي في إندونيسيا، أسست شخصيات حضرمية بارزة جمعية شركة إسلام -التي تأسست في بوغور بجاوا الغربية عام 1905- كأول مسعى مؤسسي لتوحيد مواقف مسلمي إندونيسيا اقتصاديا وسياسيا في البلاد.
 
وفي 1934 أسست مجموعة من ذوي الأصول الحضرمية ما عرف حينها باتحاد عرب إندونيسيا، وفي مقدمة المؤسسين عبد الرحمن باسويدان، وهو جد حاكم العاصمة الإندونيسية الحالي أنيس باسويدان.
 
وانخرط اليمنيون في الحركة الوطنية ضد الاستعمار الهولندي، حتى أعلن أحمد سوكارنو -أول رئيس لإندونيسيا- بيان الاستقلال عام 1945 من منزل أهداه إليه 3 تجار من حضرموت اليمن، اشتروا أيضا عددا من العقارات والمباني الأخرى للدولة الوليدة في جاكرتا وغيرها من مناطق جزيرة جاوا، وهو أمر قدّرته الدولة لاحقا بوسام لهم بعد الاستقلال.
 
الهجرة نحو الخليج

وعلى عكس الصورة النمطية عن هجرة العمالة للدول الخليجية -خاصة السعودية- بعد اكتشاف النفط وما حققه من طفرات اقتصادية، فإن الهجرة اليمنية للخليج سابقة على النفط لقرب المسافة أولا وامتداد كثير من القبائل اليمنية في أجزاء مختلفة من الجزيرة العربية.
 
وكان لليمنيين دور كبير في بناء الدولة الحديثة بالمملكة العربية السعودية منذ تأسيسها عام 1932، وقد تقلد عدد منهم مناصب حكومية ووزارية مختلفة، وفي هذا الصدد تُذكر شخصيات مثل عمر السقاف (توفي 1974) أول وكيل دائم لوزارة الخارجية وأول وزير للشؤون الخارجية، وعبد الله عمر بلخير (توفي 2002) الذي أنشأ المديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر ثم أصبح أول وزير للإعلام.
 
أما على الصعيد الاقتصادي، فإن اليمنيين والحضارم على وجه الخصوص كانوا ركنا أساسيا للنهضة الاقتصادية التي عاشتها السعودية ولا سيما في الحجاز، وأسهموا في رفد اقتصاد الدولة الوليدة حينذاك، وقد عهد إلى الشيخ محمد بن لادن (أو المعلم كما كان يسمى) مشاريع إنشائية وعمرانية عديدة، أهمها توسعة الحرمين الشريفين في مكة والمدينة.
 
كما أسس الشيخ سالم بن محفوظ أحد أشهر البنوك المحلية التي ساهمت في تنمية الاقتصاد السعودي وأرست طرقا وأساليب غير تقليدية للعمل المالي، كما برزت بيوتات تجارية عريقة كان لها دور بارز في اقتصاد المملكة، وأشهرهم آل العمودي وآل بقشان وآل باعشن وآل باخشب وكثيرون غيرهم، ساهموا في مجالات اقتصادية عديدة من البناء والمقاولات والإنشاءات مرورا بالعقارات والفنادق وأيضا الصناعات والمعادن والمعدات الثقيلة والسيارات، وليس انتهاء بتجارة المواد الغذائية.
 
وإذا كان هذا دأب اليمنيين في القرون الماضية، فإن الصرامة التي اتسمت بها قوانين الهجرة بين البلدان في الوقت الحاضر حالت بين اليمني وبين ممارسته إحدى أهم خصائصه التي طبعت تاريخه الاجتماعي، لكنه سيبقى إما مهاجرا أو عائدا من هجرة أو منتظرا فرصته للرحيل.

*الجزيرة نت
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر