تريم الغنّاء.. حاضرة حضرموت وقصرها المَشْيَد

تحتشد حضرموت، أكبر محافظات اليمن مساحةً، شرقي البلاد، بتراث معماري زاخر، وتعبيراً عن ذلك تم إدراج إحدى مدنها، وهي شِبام، حضرموت ضمن قائمة التراث العالمي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونيسكو». كما كانت ثمة جهود حكومية، قبل الحرب المستعرة في البلاد، لإدراج مُدن أخرى في اليمن في تلك القائمة، بما فيها الهجرين، مسقط رأس الشاعر العربي امرئ القيس القائل: «تطاول الليل علينا دمون / دمون إنا معشر يمانون/ وإنا لأهلنا مُحِبُون». ودمون اسم مكان قريب من الهجرين.
 
ومن أهم مُدن حضرموت تبرز مدينة تريم، التي تعتبر عنواناً بارزاً من عناوين العمارة الطينية الباذخة في هذه المحافظة، والتي تشتهر بقصورها رائعة النقوش والزخارف، كما تشتهر باحتضان عدد كبير من المساجد وأربطة العلم التي ازدهر فيها التعليم الديني والدرس الإسلامي، وفيها تخرج عديد من العلماء الذين انطلقوا مساهمين في نشر الإسلام في أصقاع المعمورة، وخصوصاً في جنوب شرق آسيا.
 
 وإلى هذه المدينة ما زال يشد الرحال كثير من طلاب العلم الذين يقصدون مدارسها وأربطتها الشهيرة كدار المصطفى للعلوم الإسلامية ورباط تريم وغيرها. وينتسب لهذه المدينة عددٌ من أشهر الفقهاء، كما ينتمي إليها عددٌ من نجوم الفن كالفنان الراحل أبو بكر سالم.
 
ولخصوصيتها الثقافية والإسلامية اختارتها المنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم «إيسيسكو» عام 2010 عاصمة للثقافة الإسلامية. وشهدت خلال ذلك العام برنامجاً أكد على الدور الاشعاعي والتنويري لهذه المدينة العتيقة التي احترمت التنوع الثقافي.
 
تقع شمال شرق مدينة سيئون، عاصمة وادي حضرموت، وتُعدّ العاصمة الدينية للوادي أحد أكبر وديان الجزيرة العربية، ويمتد من رملة السبعتين غرباً وينتهي مصبه في سيحوت محافظة المهرة على البحر العربي، كما كانت العاصمة الإدارية للوادي ومقر حكم الوالي على مخلاف حضرموت في عصر الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وفي عصر الخلفاء بعده، وهي اليوم مقر للحكم المحلي لمديرية تريم.
 
يمكن الوصول إليها براً من خلال مدينة سيئون بواسطة سيارة تقطع طريقاً معبداً يصل إلى 34 كيلو متراً، وخلال وقت قصير ستطل المدينة عليك من بعيد رابضة على مساحة شبه مستوية، وكلما اقتربت سيتجلى لك أكثر عنوانها ومعلمها الأهم جامع المحضار بمئذنته المرتفعة رباعية وهرمية الشكل. وأنت تقترب منها تبرز العمارة في هذه المدينة من أهم معالمها، وهو ما يمكن ملاحظته، وأنت تتنقل بين أحيائها وأزقتها متعرفاً على أسواقها ومساجدها وقصورها وسورها.
تعود كثير من المراجع بتاريخ هذه المدينة إلى القرن الرابع الميلادي، فيما رجحت مصادر أن تسميتها تعود إلى اسم مؤسسها وهو أحد أبناء الملك حضرموت بن سبأ الأصغر «تريم» فيما يقول ياقوت الحموي في معجمه: «تريم اسم إحدى مدينتي حضرموت». لأن حضرموت اسم للناحية بجملتها، ومدينتاها شِبام وتريم، وهما قبيلتان سميت المدينتان باسميهما.
 
وحسب بعض المراجع التاريخية فقد كانت تريم عاصمة حضرموت القديمة ومركز ملوك كِندة قبل الإسلام، «كما استطاعت بواسطة موقعها على طريق البخور القديم الذي كان يربط ساحل المحيط الهندي بساحل البحر المتوسط عن طريق البر، أن تعزز من مكانتها وتكرس حضورها كمدينة تجارية ودينية». كما اكتسبت أهمية عسكرية من خلال موقعها المحاط بالمرتفعات. ويُحيط بالمدينة وادٍ زراعي غني بالمياه الجوفية، وهو ما كرّس من خصوصيتها، إذ وفر حاجة السكان والمزروعات من الماء.
 
على عراقة هذه المدينة لم يبزغ نجمها مضيئاً إلا عقب ظهور الإسلام، وذلك من خلال الدور المُبكّر والمُشرّف لأبنائها في خدمة الإسلام، وهو الدور الذي ما زال متواصلاً حتى اليوم، فأزدهرت في أرجاء المدينة عبر تاريخها مدارس العلوم الإسلامية، حتى أضحت المدينة من أهم مقاصد طلاب العلم الذين يفدون إليها من مختلف مناطق اليمن والبلدان المجاورة وبلدان الشرق الأقصى وشرق افريقيا قاصدين أربطتها ومراكزها العلمية، التي كان لها وما زال صيت ومكانة في تعليم وتحفيظ القرآن الكريم وتدريس الفقه وغيرها من العلوم الإسلامية، وهي المراكز والأربطة التي اشتهرت بتعدد زواياها وكثرة وتخصص علمائها ونبوغ العديد منهم.
 
مساجد
من خلال ذلك الدور الدعوي العلمي الإسلامي المشرّف تبلورت مكانة هذه المدينة في التاريخ الإسلامي وارتفع صوتها ورتبتها وذاع صيتها وسناؤها وزاد شرفها وفضلها، وقد ارتبط هذا الدور بالمساجد، حتى شاع أن عدد مساجدها 360 مسجداً، وهو عدد كبير إذا ما قورن بمساحة المدينة التي لا تتجاوز 2894 كم مربع يسكنها نحو مئة ألف نسمة.
 
ووفقاً لبعض المصادر التي أعادت قراءة حكاية هذا الرقم لمساجد تريم، فإن ذلك العدد قد شمل بجانب المساجد والجوامع أعدادا كبيرة من المصليات والزوايا التي كانت متناثرة في أرجاء المدينة وواديها، والتي مع مرور الزمن تداخلت ببعضها وبنيت منها جوامع كبيرة ليتقلص عددها في الوقت الراهن إلى مئة مسجد تقريباً.
 
ويعكس عدد المساجد والمدارس الدينية في هذه المدينة مستوى التدين الذي يتميز به أهلها، حتى أنه يقال «شوارع تريم شيخ من لا شيخ له» في إشارة إلى ما وصل إليه حال التدين والتفقه لدى سكانها.
عندما تصل المدينة وتتنقل بين أرجائها ستجد أن تخطيطها يعتمد أساساً على نظام الحارات التي تبدو واضحة، وهو ما شرحته بإسهاب عدد من المراجع، حيث تلاحظ وجود عدد من المساجد في كل حارة.
 
العِمارة
تبقى المساجد من أهم ملامح الفن المعماري للمدينة، وقد ظل تطور تصميم وبناء المساجد في تريم متواصلاً، حيث شهدت، في مراحل توسعها، تطوراً وتحسيناً في تصميمها ومعمارها، حتى أضحى العديد منها آيات جمالية تشهد لأبنائها بالإبداع الهندسي والفني البديع الذي تجاوزا من خلاله ما هو عليه فن المعمار في بقية مُدن حضرموت، وخاصة في تفصيلاته الجمالية، إذ تفنن البناؤون هناك في إعادة توظيف مادة الطين التي تستخدم في العمارة في وادي حضرموت وتطويعها بما أسهم في تطوير تصميم المعمار ومكونه الجمالي لتصبح العمارة في مدينتهم أكثر اختلافاَ وأزهي مما هي عليه في بقية مُدن الوادي، وهو التطور الذي ظهر جلياً في عمارة المساجد، إذ تظهر المساجد العنوان الأبرز لمدى تطور فن العمارة الطينية التريمية، ومن أبرز ملامح التميز المعماري الطيني في مساجدها مناراتها.
 
من تلك المساجد والمنارات التي تمثل شهادة حية على روعة العمارة الطينية في هذه المدينة عمارة منارة جامع المحضار الذي بناه عمر المحضار بن عبد الرحمن السقاف، وهو أبرز مقاصد زوار تريم لما يمتاز به من فن هندسي جميل في عمارته خاصة منارته الشامخة بطول يصل إلى (175 قدماً) ويعود بناؤها إلى قبل مئة سنة تقريباً، حيث صممها الشاعر والأديب أبوبكر بن شهاب، بينما نفذها عوض سلمان عفيف وفق نقول عديدة اطلعنا عليها.
 
وحسب مصدر علمي فإنه «لأول مرة في تاريخ العمارة الطينية في حضرموت يتم بناء منارة مسجد رباعية القاعدة هرمية الشكل وبهذا الارتفاع، من خلال ابتكار العديد من الحلول والأفكار التي أخرجت هذا المعلم الذي بات أهم معالم المدينة» وعدّه مؤرخون «أول وأطول منارة طينية مربعة الشكل في وادي حضرموت بل وفي العالم أجمع».
 
قصور
 
وأنت تتنقل بين أرجاء المدينة متأملا معالمها ستظل تتلهف شوقاً لزيارة بعض قصورها ومعرفة قصة عمارتها، التي تبرز ملمحاً مدهشاً من ملامح هذه المدينة إن لم يكن جزءاً أصيلاً من طرازها المعماري الجميل ويشمل عدداً من القصور المتفردة «بأسلوب معماري تحفل من خلاله الواجهات بتأثيرات جمالية وتزيينية كثيرة لونياً وشكلياً، من حيث فتحات الشبابيك والأقواس والمثلث أعلى الواجهة» علاوة على النقوش في الداخل والخارج ضمن تفاصيل عديدة لطراز بالغ التعقيد والجمال الوظيفي وغير الوظيفي، وهي تقنية بنائية محلية لا تملك سوى أن تقف أمامها ذاهلا.
بلا شك إن هذه القصور تعود لعائلات ثرية أو حُكام. ومن أشهر هذه القصور: قصر القبة، قصر المنيصورة، قصر تريم، قصر الرناد، وقصر عشة…وغيرها، ويمثل قصر الرناد حالة معمارية خاصة تواكبت عليه مراحل مختلفة من تاريخ المدينة، وحسب مصادر فقد اتخذته الدول المتعاقبة على تريم مقراً للحكم من عهد ما قبل الإسلام وما بعده.
 
تقدّم هذه القصور التي ما تزال قائمة، صورا مختلفة عن الروعة المعمارية الطينية في هذه المدينة، إذ تعكس واجهاتها ومكوناتها وتخطيطها المستوى الرفيع والبديع الذي وصل إليه فن المعمار وفخامته هناك، هذه القصور بفتنتها المعمارية وموقعها بين المزارع والبساتين المخضرة والمعرشة بالنخيل التي تملأ بعض فراغات المدينة تظهر كأنها لوحة فنية، وفي هذه اللوحة تتجلى بوضوح أبهة المنظومة المعمارية الطينية لهذه المدينة التي سُميت «تريم الغنّاء» بتشديد النون لتمتعها بجمال أخّاذ مصدره هذه اللوحة البديعة التي تظهر فيها المدينة ممتدة بين المزارع والحدائق والمنتزهات.
 
تظهر في تفاصيل النمط المعماري لقصور ومساجد تريم مثل غيرها من مُدن وادي حضرموت لمسة أقرب ما تكون إلى ما نشاهده في معمار بعض بلدان المهجر الآسيوي… ووفقاً لأحد المراجع التاريخية فقد «هاجر العديد من أبناء تريم مع بدايات القرن الثاني عشر الهجري إلى افريقيا وجنوب شرق آسيا وعملوا على نشر الدين الإسلامي في هذه البلدان واستقروا فيها وعملوا بالتجارة وكونوا لهم هناك ثروات طائلة ثم عاد بعضهم إلى تريم وشيد فيها العديد من البيوت التي هي إلى القصور أقرب، ذات طراز ضخم متأثر بالعمارة السائدة في جنوب شرق آسيا آنذاك من حيث الأقواس والنقوش العمرانية».
 
وحسب مصادر علمية فقد مثل تأثر العمارة في تريم بعمارة جنوب شرق آسيا «تحدّياً للخبرات المحلية في محاكاة فنون معمارية معقدة التفاصيل ومتعددة الأشكال باستخدام الطين وبعض المواد الأخرى».
 
ووفقاً لنقول تاريخية مختلفة فقد «تطورت فنون النقش والتشكيل لأخشاب الأبواب والنوافذ وغيرها، ونتج عن ذلك بداية اكتشاف المواد المستخدمة في التلوين والنقش على الجدران، وتطورت تقنية عمل الجير (النورة) التي تطلى بها الجدران والواجهات».
 
 لقد استطاع هذا النمط أن يسجل حضوراً مضيئاً في عمارة المساجد والقصور وغيرها ضمن نمط هجين يعود الفضل فيه للبنائين هناك الذين استطاعوا الاقتباس والتطوير باستخدام المادة الطينية المحلية، وهي المادة الي ساعدت على الإبداع في النقوش والزخرفة، والتي تبرز من خلالها العمارة التريمية لوحات فنية باذخة.
 
مكتبات وأعلام
 
كما تشتهر هذه المدينة بمكتباتها ومخطوطاتها، وفي مقدمتها مكتبة الأحقاف التي تضم ما يزيد عن خمسة آلاف مخطوطة من المخطوطات النادرة والثمينة تم جمعها من المكتبات الخاصة ووضعها في هذه المكتبة التي أُفتحت عام 1972م وتُعدّ من أهم مكتبات المخطوطات في اليمن، وفي سنة 1977م قسمت إلى مكتبتين: واحدة للمخطوطات، وأخرى للمطبوعات.
 
نبغ من بين أبناء هذه المدينة عددٌ من الأعلام في مراحل مختلفة من تاريخها والذين يعدّون من رموز الفكر الإسلامي لإسهاماتهم المشرقة والمُشرّفة، التي امتدت لتشمل مجالات عديدة بما فيها الفنون، وهو ما يمكن قراءته في خصوصية وثراء التراث الفولكلوري والفني والثقافي لأبناء تريم الذين استطاعوا أن يمزجوا بين الفن بقيمه الرفيعة والدين بغاياته السامية. فكانت وما تزال حياتهم مفعمة بالدهشة في كل مشاهدها.
 
 
المصدر: القدس العربي

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر