هكذا دخلت الآلهة القديمة وعبادة الكواكب إلى منازل اليمنيين المعاصرين

من وسط الظلام، ينبثق ضوء ملون أشبه بعنقود كويكبات متصلة، لكل منها لون خاص.

ما إن تقترب من مصدر الضوء حتى تكتشف أنه القمرية، ذلك المكون الجمالي والوظيفي في العمارة اليمنية والوثيق الصلة بعبادات اليمنيين القدماء.

في القديم، كان ضوء القمر يتسلل إلى البيوت ويسحر خيال الساكنين ليس بصفته المادية التي نعرفها حالياً، بل باعتباره نور الإله سين، الاسم الذي أطلقه اليمنيون القدماء على معبودهم القمر الذي انتشرت عبادته خلال الفترة 2600-2400 قبل الميلاد.

ولئن صارت عبادة الكواكب من الماضي، بيد أن بصمة الآلهة القديمة ما زالت حاضرة في حياة اليمنيين المعاصرين ومساكنهم. وتعتبر القمرية التي يقدّر الباحث البريطاني تيم ماكنتوش سميث عمرها بنحو 40000 سنة، واحدة من الأشكال المادية التي ما فتئت تسرد تاريخ حضارات غابرة.


سليل القمر

تعد مدينة صنعاء القديمة التي أدرجتها اليونيسكو ضمن قائمة التراث الإنساني، أبرز النماذج المعمارية الحية وأكثرها تجسيداً لوظيفة القمرية وجماليتها. فمعمار البيت الصنعاني أشبه بخريطة إنثربولوجية تؤشر إلى تاريخ الإنسان اليمني وثقافته.

يوصف قصر غمدان الشهير، باعتباره النموذج الأقدم في استخدام المرمر في القمرية في عمارة صنعاء.

وإضافة إلى ارتفاعه البالغ 20 طبقة، وفق روايات الإخباريين، تقدره مصادر دقيقة كثيرة، هي الموسوعة اليمنية، بعشر طبقات (40 متراً). تميز القصر، بسقف طبقته العليا المصنوع من الرخام، فإذا نظر الجالس إلى الأعلى شاهد الطيور في السماء وفق روايات إخباريين ورحالة مثل الهمذاني والقزويني.

على مقربة من موقع قصر غمدان في صنعاء الذي اندثرت آثاره ولم يبق منها سوى بعض الأعمدة المستخدمة في بناء الجامع الكبير، يقع منزل عبدالوهاب الصيرفي (48عاماً) سليل أعرق الأسر في صناعة القمريات. والقمرية هي ذلك الجزء الواقع أعلى النافذة ويصنع من الجص والمرمر أو الزجاج الملون ويأخذ شكل نصف الدائرة.

يلفت المهندس المعماري والشاعر اليمني سبأ الصليحي إلى شاعرية اسم القمرية ووظيفتها، فإضافة إلى انفتاحها على ضوء القمر، تعمل القمرية على "تشتيت أشعة الشمس النافذة عبرها إلى داخل المنزل، فتبدو شبيهة بأشعة القمر"، يقول الصليحي لرصيف22، موضحاً أن ربط القمرية بعبادة القمر يبقى مجرد تأويل إلى أن يعثر على أدلة قاطعة.

لكن مصادر إعلامية تنسب إلى باحث يمني قوله بوجود علاقة بين القمرية وعبادة القمر. ولم يتسنّ لـرصيف22 التواصل مع الباحث أو الاطلاع على الأدلة التي استند إليها.

الواضح أن القمرية حملت عبر تاريخها رموز معتقدات قديمة. وما زال يمنيون يرددون أقوال ذات صلة بعبادة القمر مثل: "بيت بلا قمرية بيت بلا بركة" و "ياسين عليك ياسين" وهي تعويذة لفظية تستعير اسم الإله سين.

يذكر الصليحي أن أنماطاً هندسية داخلة في الزخرفة الجصية، خصوصاً القمريات يمكن تأويلها كشكل من أشكال الشمس والقمر والزهرة، الثالوث المقدس في اليمن القديم.

منازل قديمة في صنعاء وعدد من المناطق اليمنية تزدان بأشكال حيوانية ورموز تعود إلى العبادات القديمة. ويضع يمنيون في أركان سطح منازلهم قرون حيوانات مثل الوعل، أحد القرابين المقدسة التي كانت تقدم إلى الإله القمر. وتشهد محافظة حضرموت سنوياً طقساً شعبياً لصيد الوعول. ويعتقد أنه امتداد للطقس القديم المعروف بصيد عثتر. والوعل اسم عائلات يمنية معاصرة.

علاوة على احتوائها على رموز عبادة الكواكب والنجوم، تحمل منازل صنعاء القديمة رموز ديانات لاحقة مثل اليهودية والإسلام. وتحضر نجمة داوود السداسية في قمريات منازل صنعانية. ويرجع باحثون "الشمسي" وهو الفناء المفتوح في بعض المنازل الصنعانية إلى طقس الصيام في اليهودية، والذي يستلزم الإفطار في مكان فيه سعف نخيل.

يهود اليمن كانوا حرفيين بامتياز، بخاصة في صناعة القمريات. ومع تناقص أعداد اليهود ودخول مسلمين سوق صناعة القمرية، حلت النجمة الخماسية محل السداسية واتجهت زخرفة القمرية نحو التجريد.

ظلام المغول

لئن جسد نمط العمارة اليمنية عبر تاريخه التعدد الثقافي والديني وعكس بعض صراعاته، بيد أن هذا النمط لم يتعرض للتشويه كما يتعرض حالياً على أيدي المغول الجدد وفق قول الطالبة في جامعة صنعاء أماني اسحاق (23 سنة) متهمة في حديث مع رصيف22، أصحاب المشاريع المعمارية الحديثة بالافتقار إلى الحس الجمالي.

رأي اسحاق يتفق مع أطروحات جامعية كشفت وجود انفصال بين العمارة الجديدة والقديمة وتشوه معماري يتناقض مع الطراز الجمالي القديم.

غير أن المهندس الصليحي بدا مطمئناً في هذا الشأن، وباستثناء إقراره بشبه تهديد يواجه قمريات المرمر، يتوقع "عودة قوية للقمرية عبر موضات مستقبلية"، فالقمرية وفق قوله "من العناصر القابلة للتطوير وإعادة التأويل في المعمار المحلي، لذلك ستستمر طويلاً".

أثناء الاحتفال بصنعاء عاصمة الثقافة العربية 2004، كانت القمرية شعاراً للاحتفالية ومنشوراتها، لكن واقع استخدام القمرية ظل في تراجع، بحيث صارت القمرية هامشية مقابل تزايد استخدام عقود الألمنيوم وفق ما لاحظ رصيف22 في بعض أحياء صنعاء الجديدة.

تبرر السلطات المختصة تقاعسها عن حماية طراز المعمار اليمني بشح الإمكانات المادية. لكن هذه التبريرات لم تقنع كثيرين، خصوصاً أن التشوه امتد إلى داخل المدن التاريخية مثل صنعاء وزبيد، "فحماية هذه المدن لا يحتاج سوى إلى إنفاذ القانون"، وفق ما يقول منتقدو الحكومة.

ابتسامة سين

عدد قليل من الجيل اليمني الشاب يستشعر الخطر الداهم لهويته الحضارية، وعدد أقل يحول شعوره هذا إلى عمل. ومن هؤلاء انتصار العاضي (40 سنة) التي حولت شهر رمضان مناسبة للتوعية بأهمية القمرية والترويج لها.

خلال رمضان الماضي، نظمت "مؤسسة كل البنات"، وهي منظمة غير الحكومية ترأسها العاضي، احتفالية بعنوان "ألوان القمريات تجمعنا"، عرضت خلالها وبيعت تصاميم مختلفة للقمرية بأحجام صغيرة وأشكال متعددة تصلح تذكارات وهدايا لتزيين المكاتب أو المنازل. وهي تباع أيضاً في مراكز ومؤسسات تجارية.

تقول العاضي لرصيف 22، أن الاحتفالية هدفت إلى إحياء الأهمية الاقتصادية والجمالية للقمريات، وتأتي ضمن مشروع التمكين الاقتصادي للشباب، خصوصاً في ظل تدهور الأعمال نتيجة استمرار النزاع؟

وتسببت الحرب التي تشهدها البلاد على خلفية انقلاب مسلح تنفذه ميليشيات الحوثيين (حركة أنصارالله) والقوات العسكرية التي أبقت على ولائها للرئيس السابق علي عبدالله صالح، في تدمير البنية التحتية وانهيار الاقتصاد اليمني الضعيف أصلاً.

يذكر عبدالوهاب الصيرفي لرصيف22، تحديات تواجه صناعة القمريات، خصوصاً التي تستخدم المرمر بدلاً من الزجاج ويطلق عليها في صنعاء "القَمَري"، وهي نوع تعد عائلة الصيرفي أشهر من اشتغل فيه وربما كانت آخر العائلات في هذا المجال.

بحسب الصيرفي، يعد استخراج المرمر من باطن الأرض والانبعاجات في المواد الخام من أبرز الصعوبات التي تواجه صناعة القَمَري.
مع استمرار انقطاع التيار الكهربائي منذ سنتين، هيمن الظلام على مدن كبيرة مثل صنعاء، فكان أن عادت القمرية إلى الواجهة باعتبارها ابتسامة البيت المنيرة ذات الألوان الجذابة والساحرة.
تضمنت منتجات "كل البنات" مصابيح على شكل قمرية صغيرة يمكن شحنها بواسطة الألواح الشمسية كما أنتجت المؤسسة فيلماً تسجيلياً وشريط فيديو يروجان للقمرية. ويرى الصيرفي وآخرون أن عودة الاستقرار الأمني والاقتصادي إلى البلاد تبقى المطلب الملح لحل جميع المشكلات.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر