انتخبوا قاتل الانتخابات


وائل قنديل

ثلاثة أيام من الوطنية المبتذلة، أهانوا فيها قيمة العسكرية، واحتقروا معنى السياسة، ودمروا مفهوم الانتخابات الديمقراطية، بتحويلها إلى مهرجان للدجل والشعوذة، وحفلة تعذيب وإهدار لحقوق الإنسان، ومهزلة أضحكت العالم، لكنه ضحك بمرارة البكاء على وطنٍ تحول على يد هؤلاء إلى مغارةٍ في بطن الجبل، يختطفون إليها البشر، رهائن أو ذبائح، يمارسون ضدهم أبشع أنواع التنكيل.
 
الشخص الذي قتل مبدأ الانتخابات، وألغى مفهوم الممارسة الديمقراطية في حياة المصريين، يأمرك بالرقص على حافة محرقةٍ سياسية، ويجبرك على أن تسمي ذلك عرساً انتخابياً في واحة الديمقراطية.
 
والذين وافقوا، أو سكتوا، على ما قام به القاتل، يدفعون الثمن الآن، لا يملكون إلا بكائياتٍ على ثورة طلبت الكرامة الإنسانية، وانتزعتها انتزاعاً، ودفعت ثمنها دماً لأنبل أبنائها، فجاء من يقودها إلى مخادع الطغاة وأقبية الجلادين، وها هم يمضغون الوقت في عض الأصابع، ندماً على ما تم إهداره.
 
يشغلون أنفسهم ويلهون الناس بالحديث عن إقبالٍ ضعيفٍ أو كثيف أو إقبال نحيف، من دون أن يمتلكوا  شجاعة الاعتراف بأن الانتخابات الرئاسية الحقيقية الأولى والوحيدة في تاريخ مصر هي انتخابات 2012. وأن الرئيس الوحيد الذي انتخبه المصريون بحرية طوال تاريخهم اسمه محمد مرسي.
 
يذرفون الدمع ساخناً على مشاريع مرشحين محتملين للمشاركة في مسرحيةٍ لا تحمل من ملامح الانتخابات شيئاً، لكن أحداً لا يتذكّر رئيساً منتخباً بالفعل، تنهشه رطوبة الزنزانة وسادية السجان، وتفترسه ألسنة نفرٍ من الذين كانوا حطباً لحريق مجنون التهم كل فرصة في مستقبل لديمقراطية وليدة وثورة في عنفوانها.
 
أعطنا صوتك، أو نأخذ عمرك، تلك هي المقايضة الوضيعة التي فرضوها على البشر، فرأينا عجائز فاقداتٍ للذاكرة، يحملن على نقالات من عنابر المستشفيات، وسط احتفالاتٍ تلفزيونيةٍ صاخبة، إلى لجان التصويت التي تحولت إلى مواقع للتصوير ومراقص للتخدير، ومواقد لشواء الوجود الإنساني.
 
رأينا شيوخ تعليم يغنون، بالإكراه، أكثر أغنيات الوطنية المعسكرة ابتذالاً وإسفافاً، ورأينا طالبات مدارس، معتقلاتٍ في فصول الدراسة، يغنين للعسكري الدبابة، بالأمر، فتخرج منهن الكلمات مكسورةً مجروحة، كأنهن يمارسن الرذيلة، تحت تهديد السلاح، وترهيب المدرسين، لتحول المشهد إلى ما يشبه فعل اغتصاب للروح قبل الجسد، أغلب الظن أن الصغيرات رجعن بعده إلى بيوتهن في حالة انهيار عصبي، ودخلن في نوبات بكاءٍ على الكرامة المسلوبة والحرية المسروقة.
 
هؤلاء ضحايا، والذين أرغموهم على الغناء المرّ أيضاً ضحايا، وكما قالها ذلك المسؤول في التعليم وهو يتوعد المعلمين والمعلمات بالويل والثبور، إن لم يعودوا إلى مكاتبهم، ومعهم كروت التصويت، وعلى أيديهم الحبر الفوسفوري "هذه تعليمات الدولة وأجهزة الدولة".
 
تقول كل المواثيق الدولية والدساتير المتعاقبة إن عدم التصويت، مثل التصويت، حق من حقوق المواطن، إذ يعد الامتناع، وكذلك المقاطعة، نوعاً من أنواع التعبير عن الرأي. وبالتالي، لا يجوز لأي سلطة أن تسلبه إياه، أو أن ترغمه على المشاركة، إن كان لا يريدها.
 
لكن، في مصر، كما في عصور الظلام قبل قرون، يساق المواطنون إلى صناديق الاقتراع بالإكراه المادي، والإرهاب، على الرغم من أنه لا توجد انتخاباتٌ من الأساس، كما يشهد القاصي والداني، وكما يستقر في وعي الذين حولوا استحقاقاً، من المفترض أنه ديمقراطي في الظروف العادية، إلى سلخانات تعذيب ومقار تنكيل وحلقات دروشة، من دون خجل أو وجل، حتى إنك لا تبالغ لو قلت إنه تتم عمليات قبض عشوائي على المواطنين من الشوارع والمنازل ومقار العمل، وترحيلهم إلى معسكرات التصويت وزنازين الاقتراع.
 
في هذه المعرّة الحضارية، والمأساة التاريخية، لا تنهالوا بالسياط على ظهور الذين أجبروا على المشاركة في هذا المجون السياسي، عنوة وقسراً وإرهاباً بالدبابة والسبابة، فهؤلاء جميعاً ضحايا مغلوبٌ على أمرهم، في أرضٍ لا تنبت إلا الخوف، ولا ينمو فيها شيء إلا القمع والقهر، ويرتفع جدار الرعب إلى الحد الذي يصبح معه السكوت على الجريمة هو الحد الأقصى المسموح به للنضال عند بعض منمن يسمون نخباً سياسية، فما بالك بعامل مقهور أو فلاح مكسور أو مريض مهدد بقطع العلاج إن لم يتل ُ تعاويذ تمجيد الطغيان وتأليه الاستبداد!
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر