اللغط الذي يدور هذه الأيام حول تسوية سياسية قريبة للأزمة اليمنية منشؤها في الأساس مصدران، الأول ويعكس الرغبة في إيقاف الحرب على أي نحو كان بعد أن استبد اليأس بأصحاب هذا المصدر من تحقيق أي مكاسب عسكرية حيوية من شأنها أن تفتح الطريق نحو حل ينهي الانقلاب وما ترتب عليه من نتائج على الأرض.
 
أما الثاني فيأتي من وسط الانقلابين الذين نشطوا في الآونة الأخيرة في فبركة تسريبات عن اتفاقات تسوية على وشك أن توقع بين الأطراف المختلفة بعد أن وصلت الحرب، على حد زعمهم، إلى طريق مسدود. وهم لا يتورعون في وصف الحرب بأنها فشلت، وأن التسوية السياسية هي الطريق الوحيد للخروج من المأزق، وكأن ما قاموا به من عدوان على الدولة والشعب ليس حرباً، بل إن مقاومة انقلابهم هي الحرب.

والمتتبع لما يضخه المصدران من أخبار حول التسوية يستطيع أن يميز الطيب من الخبيث، فالأول تتناسق أخباره في سياق متصل مع ما وصل إليه حال الناس من بؤس شديد. وهو يعبر عن رغبة في حل سياسي يمنع الانزلاق نحو مزيد من التدهور والغرق في المأساة بما يرتبه ذلك من أوضاع إنسانية أكثر خطورة.
 
ولكن عندما يجري تفكيك هذه الرغبة عند الكثير من هؤلاء بمزيد من الاسئلة لتوضيح مضامينها، نجد مثلاً أن الإجابة على سؤال من قبيل: هل تريد سلاماً دائماً ومستقراً ينهي الحرب أم سلاماً مؤقتاً وهشاً يبعثها أكثر دمامةً من ذي قبل؟ تكون الاجابة: بالطبع سلاماً دائماً ومستقراً يضع حداً لتكرار الحروب. ثم يتبعه سؤال عن شروط تحقيق مثل هذا السلام وهل قبول الأمر الواقع الذي فرضه الانقلاب يحقق مثل هذا السلام؟ وتكون الإجابة بلا، واثقة أحياناً وحائرة أحياناً أخرى.
 
 لكن في كل الأحيان يتم التأكيد على أن السلام الدائم والمستقر يشترط في الأساس إنهاء الوضع الانقلابي وتصفية كل العوامل التي تسببت في هذه الحرب بحيث لا تكون سبباً في نشوب صراعات وحروب أخرى، ويأتي دور هؤلاء في طرح السؤال: ولكن كيف سيتم ذلك وقد مضى على الحرب ثلاث سنوات ولا نرى في الأفق ما يبعث على الثقة من أن الحرب قد فتحت طريقاً نحو الحل؟ ويبقى السؤال محور حديث فيه كثير من الاتفاق وقليل من الاختلاف.
 
ويجعل الثاني من التبشير بالتسوية وسيلة لا حلالها محل السلام الذي تختلف شروطه بدوافعه ونتائجه، ولذلك فهم لا يكلون من الحديث عن هزيمة " العدوان" وإرغامه على الذهاب إلى التسوية في مشهد تراجيدي تحيط به السخرية المترتبة عن اعتقاد بأن التمسك بمكاسب الانقلاب سيكون هو الطريق المفضي إلى تسوية سياسية لن تلزمهم سوى بالقليل من التنازلات التي تجعل مطلب حمايتهم "كأقلية" -وفقاً لما يروّجون له - مقبول دولياً.
 
وهم وإن تحدثوا عن السلام فإنما بهذا المفهوم الذي يبقي الباب مفتوحاً أمام الحروب. والحقيقة هي أن ما يبشرون به يعكس الضغوط التي يتعرضون لها من المجتمع الدولي ومن حليفهم من ناحية، وحالة اليأس والتخبط الناشئة عن الفساد الذي استشرى وسط الجماعة وحالة الإنهاك العامة وسوء إدارتها للمناطق التي تحت قبضتها.
 
إيران المنهكة اقتصاديا وعسكرياً لم تعد قادرة على مواصلة تقديم الدعم السخي لبؤر الصراع والحروب التي خلقتها خلال السنوات الماضية في المنطقة، حيث شهد المجتمع الايراني إحتقانات ضخمة شكلت تحديات كبيرة قامت السلطات بقمعها بقوة. وكانت النتائج المباشرة المترتبة على كل هذه التحديات قد ولدت عدداً من شروط الثورة الاجتماعية في بلد وصل فيه النظام السياسي إلى طريق مسدود.
 
ولذلك فإن أول حلقة سيتم التضحية بها في مضمار البحث عن مخرج من المأزق السياسي الداخلي هي حلفاؤهم في اليمن بعد أن تحولوا إلى معضلة اقتصادية وسياسية ومالية. لا سيما وأن توقعاتهم بالسيطرة على اليمن قد ذهبت أدراج الرياح، واتضح لهم أن شروط السيطرة على بلد مثل اليمن تتجاوز الممكنات التي أخطأوا في احتسابها جيداً، بما ذلك إقامة النظام الطائفي الذي يتعسف الواقع الثقافي والاجتماعي اليمني، خاصة بعد أن توصل اليمنيون في مؤتمر الحوار إلى صيغة تاريخية للدولة التي تكفل حماية حقوق كل اليمنيين ونبذوا التعصب والعنف والقوة المكرهة لإرادة الناس في تكوين الدولة.
 
 ولكي يتجنبوا هذه الخطوة، بما تعنية من خذلان، فقد أخذوا يدفعون بوسائل الضغط على الحوثيين بقبول التسوية السياسية في الوقت الحاضر وهم في وضع يستطيعون فيه أن يحققوا مكاسب سياسية كي لا يأتي وقت آخر وقد خسروا هذه الفرصة.
 
خطاب زعيم الحوثيين الأخير فيه من المراوغة ما يكفي لمعرفة موقفهم من السلام، فجل ما يسعى إليه هو تسوية توقف الحرب لا سلاماً ينهيها، وهو لا يحمل غير رسائل استغاثة بعدد من تفعيلات المشهد السياسي. فآخره، الذي يتمسك فيه بسلاح "الشعب"، يتناقض جوهرياً مع الرسائل التي أطلقها تجاه بعض خصومه كإشارة واضحة إلى أن عملية التسوية ممكنة بجامع الهوية التي باتت الجماعة تتحسسها من منابت تعكس حجم الهوة السحيقة التي وضعت نفسها فيها بالانقلاب على التوافق الوطني.
 
إن تحويل مشاورات عملية السلام إلى ضجيج يذهب به بعيداً عن شروطه التي تجعل منه سلاماً مستداماً ومستقراً سيهدد بكل تأكيد فرص السلام التي يتطلع إليها الناس.
 
لا يجب التعامل مع هذه العملية التاريخية بالخفة التي تعيد إلى الأذهان سخرية الحوثيين وحليفهم من اتفاق اليمنيين على مشروع الدولة الوطني والذي تم الانقلاب عليه بقوة السلاح، تماما مثلما تم الانقلاب على وثيقة العهد والاتفاق التي كانت هي الاخرى تؤسس لبناء دولة الوحدة.
 
تجارب النخب اليمنية المتنفذة في إفشال مشروع الدولة كثيرة، ومحصلتها هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس. عملية السلام يجب أن تكون بالوضوح الذي لا يترك مجالاً لتمويهها بتسوية فوقية لا تذهب بالمشكلة إلى جذرها، كما عبرت عنها مخرجات الحوار الوطني، على أن لا تترك لنفس النخب المتنفذة التي أفشلت مشروع الدولة، فلا بد من إحاطتها برعاية ومشاركة شعبية واسعة لارتباطها بمستقبل هذا البلد. والمستقبل لا بد أن ينتقل إلى أيدي الشعب.
 

*من صفحة الكاتب على فيسبوك

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر