‏وقود الحروب


نور ناجي

‏بالرغم من بقايا حياة سابقة مازالت تطل عليها، إلا أن مدن اليمن لم تعد تتعرف على ملامحها؛ فقدت القدرة على قراءة ما دونه التاريخ عليها، وقد أجبرت على مشاهدة غيابها تحت أكوام السلاح الكافي لدفنها.
 
‏وعلى الرغم مما تعانيه مدننا من ويلات الحرب، الا أن بقع من الضوء مازالت تسلط عليها بين الحين والآخر، وقد تصطنع من أجلها الأزمات وبطريقة ممنهجة لتسليط ذلك الضوء للمتاجرة في معاناة سكانها.
 
‏غير مدركين بأن هناك كوارث أشد فداحة، ستحتاج لعقود من الزمن لمحو أثرها بعد توقف الحرب. تلك الكوارث نالت وتنال من قرى اليمن ومناطقها الريفية أو النائية، التي لم تكن الدولة في أيام السلم منصفة معها، فانخرط جزء واسع من سكانها في الحرب بلحظة انتقام لذلك التهميش، أو لحظة جهل لم تكن هي المتسبب الأولى فيها ...!
 
‏القرى- التي إن نجت من عبور الحرب بألغامها وقذائفها، لم تنجو من مرور الجنازات عليها. فهي المنبع البشري الأكثر امدادا، والذي يتهافت عليه الجميع للاستيلاء على عناصره كوقود آدمية لاستمرار حروبهم ..
 
‏توقفت نساءها عن "مهاجلها" المشهورة بها وهي تقطف أعنابها، أو تزيح الضّار عن حبوب قمحها وذرتها؛ وصمتت معظم المشاريع الصغيرة التي أقيمت بمجهودات ذاتية، اعتمدت بشكل كامل على أبناءها المغتربين في الخارج؛ وانحنى القلة- الذين شقوا طريقهم في سلك توظيف الدولة- للجوع، وقد اختفت أحلامهم وقطعت عنهم رواتبهم ليحل محلها كوابيس ستبقى محفورة في ذاكرتهم وعلى أبواب المقابر الجماعية المفتتحة حديثاً..!
 
‏الجميع سمع بقرى فقدت شبابها، حتى لم تجد فيها من يشيع جنازاتهم، تاركة من تبقى من سكانها: إما في الجبهات، أو يعانون من الخوف، وخطوات جنون تتنزه في عقولهم، وقد أمسوا على استعداد للالتحاق به، فلم يجدوا غيره منقذا لهم ..!
 
‏عائلات فقدت معيلها، فتوسل أبناؤه التراب عله يسد رمقهم. ومن أعطى الحرب ظهره، انقطع سبيل عيشه، فأمسك معوله يشق الأرض الجافة، التي ظنَّت بقطراتها عليه بعد تضاعف أسعار وقود رفعها من باطن رحمها في حرب مختلفة النوعية. ومن كان في غربة تساعد بقية من أهله، عاد منها مطرودا أو على وشك ذلك، حائراً فيما ستصنع به الايام؟!..
 
‏ما قد تسمعه من معاناة أهالي القرى، يجعلك تضرب الأرض بقدميك ساخطا على هذه الأرض، متسائلا: "ألم تشبعي طوال هذه القرون من الدماء؟ الم تكتفي بعد؟! لماذا يعيد الإنسان تكرار حروبه وخطاياه؟ لماذا لا يكف عن جنونه؟! " ..
 
‏لم يعد أهاليها يتساءلون: مَنْ بدأ الحرب؟ ولمَ دفع ابناؤهم الثمن؟ وهل تستحق فعلا كل تلك الدماء؟! وقد يكون السؤال الأكثر أهمية بالنسبة إليهم هو: "هل ستكون الآبار الجوفية، التي حفرت بسواعد قتلى الحرب، كافية لسقاية الزرع وتبليل قبور من حفرها؟! " ..
 
‏أشبعت ثلاث سنوات من الحرب شهوة الانتقام في القلوب، ولم يعد مهما: إلى أي طرف تنتمي تلك الجثة؟ ولأي طرف كان سلاحها مرفوعا؟ يساوي الحزن والموت بين الجميع مع مرور الوقت ..
 
‏تنتهي حروفنا دون أي أمل يلوح في الأفق لانتهاء هذه الحرب. لكن إن كان هناك من يمسك بزمامها، وبمقدرته التحكم في خيوطها، أقول لهم: كونوا رجالاً لتقبضوا على السلام، إن لم تملكوا القوة لإنهاء الحرب..

 فالإنسان هو من يدفع ثمنها الباهظ، وكلما طال وقت أمدها، ثقل دينها عليه.. فلتحافظوا على بقية من إنسانيه تستحقها الأجيال القادمة وحسب ..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر