تعد الحرب الأمريكية على تنظيم القاعدة في اليمن، جزءا من حربها العالمية الأشد شراسة على الإرهاب، وهي، كما يبدو، حرب مفتوحة، تنظمها استراتيجيات مؤمننة، وطويلة المدى، وتشهد تحولات مختلفة من وقت إلى آخر، ولا أدل على ذلك التحولات، التي رافقت السنة الأولى من ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وما كشفته استراتيجيته لمكافحة الإرهاب، من ملامح تبدو أكثر دموية من ولاية سلفه "أوباما"، التي نكلت بالكثير من المدنيين الأبرياء، رغم ما أولته استراتيجيته من عناية بأدوات الأمن الناعم كتدابير رديفة لأدوات القوة في هذه الحرب.
 
" نموذج الحرب": الدمار لا الحوار
 
إجمالا، تتبنى الإدارة الأمريكية في مواجهة الإرهاب، استراتيجية "نموذج الحرب"، التي يغلب عليها مبدأ شمولي مؤداه: "نحن مقابل هم". وتقف هذه الاستراتيجية على النقيض من استراتيجية "نموذج العدالة الجنائية"، التي يعتمد نجاحها على فاعلية أدوات ووظائف السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية لدى الدول المعنية بمكافحة الإرهاب.
 
وتنظر استراتيجية "نموذج الحرب" إلى التنظيمات الإرهابية، بوصفها كيانات غير قابلة للتفاوض، أو لا يجوز التفاوض معها، وأن أنشطتها تمثل حروبا لا جرائم؛ وبذلك تتعرض الحقوق الإنسانية للانتهاك والمصادرة، خاصة حقوق الضحايا، التي قد تتعرض للتجاهل أو البخس، وذلك على نحو ما حصل مع الضحايا المدنيين في عدد من الهجمات، التي تشنها الطائرات الأمريكية على مناطق تمركز القاعدة في اليمن.
 
عمليا، باشرت الولايات المتحدة هذه الاستراتيجية، في اليمن، عقب العملية، التي نفذها تنظيم القاعدة على المدمرة الأمريكية يو أس أس كول، بميناء عدن، في أكتوبر/ تشرين الأول 2000؛ حيث كثفت عملياتها في مناطق تمركز التنظيم، وكانت باكورة هذه العمليات، الهجمة، التي شنتها، عام 2002، طائرة أمريكية على عناصر تابعة للقاعدة بمحافظة مارب، فيما كان أعنفها، استهداف منطقة المَعجَلة بمحافظة أبين، في ديسمبر/ كانون الأول 2009، بواسطة صاروخ كروز توماهوك، أودى بحياة 41 مواطنا، بينهم 14 امرأة و21 طفلا، وكذا العملية الموسومة بـ "أسود البحر"، في نهاية يناير/ كانون الثاني 2017، التي سيؤتى على ذكرها لاحقا.
 
دخلت طائرات الدرون (دون طيار) في هذه الحرب، منذ عام 2004، وازداد نشاطها في عهد الرئيس الحالي، عبد ربه هادي، الذي كشف خلال لقاء جمعه بقيادات عسكرية عام 2013، عن قِدم التعاون الأمني مع الولايات المتحدة في الحرب على القاعدة، واعتماده على اتفاقيات سرية أبرمت في عهد الرئيس السابق، علي صالح، مؤكدا وجود ضباط ارتباط يمنيين يضطلعون بتنسيق التعاون في هذا المجال، من خلال وجودهم في الولايات المتحدة، وبعض مناطق تمركز قواعدها العسكرية القريبة، مثل: جيبوتي، والبحرين.
 
 وقد جاء تصريحه، هذا، في ظرف كانت الإدارة الأمريكية تشعر بخيبة أمل إزاء النتائج الشحيحة، التي حققتها استراتيجية "نموذج الحرب"، مقابل الجهود الكبيرة، التي بذلتها خلال أكثر من عقد؛ حيث لم تجن من وراء ذلك سوى تزايد نشاط التنظيم، وتنامي قدراته.
 
مثلت السنوات الأخيرة من ولاية أوباما، نقطة تحول في الحرب على القاعدة في اليمن؛ حيث تحدد من خلالها طبيعة الدور، الذي ستلعبه إدارة ترامب. فقد شهدت تلك السنوات هجمات عنيفة ودقيقة نفذتها الطائرات دون طيار، على عدد من معاقل التنظيم في المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية من البلاد، قضى فيها أبرز قادة الصف الأول، مثل: ناصر الوحيشي، وجلال بلعيدي، ومأمون حاتم، ونصر الآنسي. ولم يمر منتصف عام 2016، حتى تمكنت قوات حكومية، مدعومة بقوات تابعة لدول التحالف العربي، وبدعم لوجستي واستخباري أمريكي، من استعادة مدينة المكلا المشاطئة للمحيط الهندي، بعد عام من سيطرة جماعة أنصار الشريعة.
 
عملية " أسود البحر": مُفتَتح التحول
 
شرع الرئيس ترامب في تنفيذ استراتيجيته لمحاربة الإرهاب في اليمن، بالعملية الموسومة بـ" أسود البحر"، التي نفذتها عناصر من مشاة البحرية الأمريكية، في 29 يناير/ كانون الثاني 2017، مستهدفة منطقة يَكْلا بمحافظة البيضاء، وسط البلاد، مخلفة 25 قتيلا، ثلثهم دون سن الثالثة عشرة، وعددا يسيرا من عناصر تنظيم القاعدة، لتبدو العملية كما لو أنها مفتتح عنيف لدورة مختلفة من السجال مع القاعدة، وفقا لهذه الاستراتيجية، التي تنظر إلى الحرب على تنظيم القاعدة بأنها غير منتهية، لاستحالة القضاء عليه، ومتجاهلة الحقوق والحريات الإنسانة، والتنمية، والحوكمة، وغير ذلك من أدوات الأمن الناعم، التي قد تحد من الممارسات الباعثة على التطرف.
 
مثلت الزيادة في الهجمات، التي شنتها الطائرات دون طيار، أحد أبرز ملامح التحول في الحرب الأمريكية على الإرهاب في اليمن، والتطبيق العملي لاستراتيجية ترامب في هذا الشأن؛ حيث تضاعف عدد الهجمات المنفذة خلال عام 2017، مقارنة بعددها عام 2016، لتصل إلى أكثر من 120 هجمة، مقابل 44 هجمة لعام 2016، تنوعت بين استهدافات جوية مباشرة، وعمليات إبرار جوي خاطفة يعقبها مواجهات عنيفة على الأرض؛ بقصد تصفية أبرز القادة، أو محاولة اختطافهم، كما حصل في عملية "أسود البحر"، والعملية، التي شهدتها منطقة موجان بمديرية خنفر بأبين، في مارس/ آذار 2017، وفي استهداف سبعة من مقاتلي التنظيم بمحافظة مارب، في مايو/ أيار 2017.
 
في اتجاه موازٍ، وخلال السنة الأولى من ولاية الرئيس ترامب، عام 2017، ازداد نشاط وزارة الخزانة الأمريكية في إدراج أسماء مواطنين يمنيين في لائحة العقوبات الأمريكية، الذي يترتب عليه حظر أصولهم ومصالحهم الخاضعة للولاية الأمريكية، وحظر تعامل المواطنين الأمريكيين معهم. ويأتي هذا الإجراء بناء على التهم الموجهة إليهم بتسهيل، ونقل، وحركة الأسلحة، والأموال، والأفراد إلى تنظيم القاعدة. وقد كان من بين أبرز هؤلاء هاشم الحامد، وخالد العرادة، اللذين أعلن عنهما في مايو/ أيار 2017، وكذا 11 شخصا، ومؤسستين عاملتين في النشاط الاجتماعي والتجاري، أعلن عن كل منهم، بالتعاون مع دول الخليج العربية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2017، بينهم عادل عبده فارع (أبو العباس)، القيادي السلفي بمقاومة تعز.
 
الحرب والشركاء والخصوم في مسار تحولات الاستراتيجية
 
مثلت الحرب الدائرة في اليمن، منذ مارس/ أذار 2015، رافعة مثالية لاستراتيجية الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب فيها؛ حيث استغلتها إدارة الرئيس ترامب مثلما استغلتها إدارة سلفه "أوباما", فقد شهد عام 2017 تبارياً منقطع النظير، بين كافة فرقاء الحرب اليمنيين، لإثبات حسن النية، وإبداء الإخلاص في التعاون لمواجهة الإرهاب، كما مثّل ذلك فرصة ذهبية لتبرئة ساحتهم من التهم، التي تثار بشأن دعمهم أو تعاطفهم مع القاعدة، أو توظيف نشاطها في الصراع على السلطة، الذي بدأ عام 2011، وانفلت عقاله بانقلاب الحوثيين عام 2014، إلا أن الكثير من مظاهر هذا التعاون حملت طابعا دعائيا، استغل فيه الجميع التراجع التكتيكي لنشاط تنظيم القاعدة، والحرب الموجهة عليه، أبشع استغلال، سواء بتسخير هذه الحرب وسيلة نفوذ في بعض المناطق الهامة، أو التراشق بتهمة دعم الإرهاب، أو إدانة الخصوم بها، بل تعداه إلى الاستهداف المادي والمباشر للخصوم السياسيين.
 
في سياق ما تدعو إليه استراتيجية ترامب، من تقاسم أعباء مواجهة الإرهاب بين الشركاء الدوليين، دخلت دولة الإمارات، بوصفها أحد قطبي التحالف العربي، كشريك مثير للجدل في هذه المواجهة، سواء من خلال العمل الثنائي مع القوات الأمريكية، مثل مشاركتها في عملية "أسود البحر"، أو القيام، منفردة، بهجمات أو مداهمات على مناطق يعتقد بتمركز التنظيم فيها، من خلال توجيه وحدات مسلحة يمنية، ترعاها بعيدا قيادة السلطة الشرعية، ومن ذلك، قوات النخبة الحضرمية، والشبوانية، التي تدفع بها في عمليات مختلفة، في حضرموت، وشبوة، وأبين.
 
إلى ذلك، تبرز تحولات الحرب على القاعدة في اليمن، من خلال قيام الطائرات الأمريكية دون طيار بإلقاء، منشورات تَعِد ملتقطيها بالحصول على مبالغ مالية مغرية، مقابل الإدلاء بأي معلومات عن ما تبقى من قادة الصف الأول في القاعدة، الذين اختفوا بعد مقتل عدد منهم في العملية، التي نفذتها القوات الأمريكية في منطقة يكلا. وقد لوحظ ذلك من خلال المنشورات، التي ألقيت في سماء مارب، في منتصف يناير/ كانون الثاني 2017 ؛ حيث حوت كلا من: قاسم الريمي، زعيم التنظيم في اليمن، وخالد باطرفي، الذي كان حضوره طاغيا خلال سيطرة جماعة أنصار الشرعة التابعة للقاعدة، على مدينة المكلا، بين عامي: 2015- 2016، كما تضمن المنشورات اسمي كلا من: إبراهيم القوص، وإبراهيم البناء.
 
من المهم القول إن الحرب، التي تشنها الولايات المتحدة على الإرهاب في اليمن، تطورت لتشمل تنظيم داعش، لكن هذا التنظيم، لا يزال كيانا شبحيا، وبالتالي فإن الحرب عليه، تبدو شبحية بالمثل، وليست بذات الصخب، الذي يرافق الحرب على القاعدة.
 
وبين هذا وذلك يمكن القول، إنه رغم عنف الاستراتيجية الأمريكية المتبعة في هذه الحرب، والتحولات، التي حفلت بها السنة الأولى من ولاية ترامب، إلا أنها لا تشير إلى الاتجاه الصحيح في التعامل مع هذا التهديد؛ فتراجع تنظيم القاعدة لا يعدو أن يكون ظاهريا وتكتيكيا، وقد تحدُث تحولات ما، ليعاود التنظيم نشاطه بقوة، وذلك ما يؤكد على ضرورة إعادة النظر في أمننة الإرهاب، وحصر مواجهته في إطار مفهوم الأمن الخشن، إلا أن تكون مسألة الإرهاب وسيلة من وسائل النفوذ والهيمنة، وبالتالي فلن تشهد هذه الحرب نهاية قريبة، وهو ما يتطابق مع النظرة الأمريكية لهذه الحرب.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر