لم يمض سوى وقت قصير، بضعة أيام، على الزيارة التي قام بها سفير السعودية إلى عدن حتى اشتعلت حرب داخلية هناك. أكد سفير السعودية، باسم دولته، أن بلاده ستدعم: البنك المركزي، انعقاد البرلمان، عودة الحكومة، والميزانية التي أعلنتها الحكومة لأول مرة منذ ثلاثة أعوام. بالعناصر الأربعة هذه كانت عدن ستضع قدميها على الطريق الصحيح كعاصمة بديلة، وكمدينة آخذة في الاستقرار. بدلاً عن أن يحدث كل ذلك اشتعلت الحرب في عدن بإشراف مباشر من قبل القوات الإماراتية وفقاً للمعلومات المتداولة آنذاك، والتي أكدتها وثيقة ال?? ملحوظة التي رفعها هادي إلى التحالف مؤخراً. ولأنها كانت حرباً تهدف أولاً إلى شل أقدام السعودية، في الأساس، فقد انتهت على نحو مأساوي بلا منتصر، وبمهزومين اثنين: عدن كمدينة، والسعودية كقائد للتحالف.
 
داخل مجال بدائي جرت الحرب، وكان خطاب القادة الشعبويين الجنوبيين مشوشاً ومضطرباً حتى إن الإعلام المساند لهم اضطرب هو أيضاً: فهي حرب لطرد القوات الشمالية، لطرد قوات هادي، دفاعاً عن هادي، لتغيير الحكومة، للشراكة في الحكومة، لمكافحة الإرهاب، لتفعيل مؤسسات دولة، لطرد المحتل الشمالي، ولأجل تحرير صنعاء. إلى كل تلك الفوضى أضاف عبد الرحمن الراشد، المحرر الأسبق للشرق الأوسط، قوله إن الانفصاليين في عدن خاضوا تلك الحرب بدعم من قطر.
 
يمكن أن نترك كل هذا الكلام عديم القيمة جانباً ونضع أيدينا على ما هو أكثر مركزية في سلسلة الصراعات الجارية في اليمن. الغنيمة التي وقعت عليها الإمارات في جنوب اليمن لا تفكر باقتسامها مع أحد. وأحياناً تبدو وكأنها غنيمة غير كافية، ذلك ما يدفع الشركات الأمنية المحلية التي أنشأتها الإمارات إلى الاحتكاك بالقوات الحكومية في وادي حضرموت. ثمة ذريعة استطاعت الإمارات بيعها خارجياً: الإرهاب. في كل مرة تقوض الإمارات شيئاً ما، وتثير احتجاجاً، فإنها تلتقط لنفسها الصور وهي تخوض حرباً ضد الإرهاب في اليمن.
 
قبل أيام منعت الإمارات وزراء في حكومة بن دغر من وضع حجر أساس لميناء بحري في شبوة. سرعان ما صار ذلك الحدث قضية رأي عام داخلية وخارجية، أما الرد الإماراتي فجاء سريعاً: النخبة الشبوانية تقوم بعملية عسكرية واسعة ضد القاعدة في صعيد شبوة، مستخدمة حوالي مائة عربة عسكرية. بحسب المعلومات التي وصلتني من مصدر إعلامي متخصص في بحوث القاعدة في اليمن فإن العملية العسكرية تلك لم تسفر عن أي معركة، ولم تحدث فيها أي اشتباكات. سبق لصحفي من حضرموت أن أشار إلى الجانب الفانتازي في الحرب ضد الإرهاب في حضرموت فوضع في المعتقل. عقب ذلك الاستعراض المهيب للقوة في صعيد شبوة التقى مسؤولون إماراتيون بمسؤولين أمريكان في منطقة المسحة، في الصعيد، وأطلعوهم على النتائج التي أحرزتها تلك العملية.
 
من الممكن إجراء جدل هنا حول الموقف الأميركي من هذا الخداع، وعن الاستجابة الأميركية للحروب المفبركة. في نهاية المطاف يعرف الأميركيون كيف يسلك شركاؤهم، لكنهم يقبلون الاستخدام المتبادل للخداع، فالإماراتيون في مناطق أخرى يقدمون صنيعاً حقيقياً للاستراتيجية الأميركية وذلك ما يهُم. وإذا خاضت الإمارات عشرة حروب مفبركة ضد القاعدة في اليمن وحرباً واحدة صحيحة فإن تلك الصفقة تبدو جيدة.
 
بالأمس نشرت "دويتشه ?يلله"، الألمانية، تقريراً عن مصادر سلاح داعش في العراق وسوريا. تحدث التقرير عن محاضرة حديثة ألقاها جو بايدن، نائب الرئيس الأميركي السابق، في جامعة هارفارد. قال بايدن للطلبة "مشكلتنا حلفاؤنا"، وحدثهم عن ثلاث دول كانت هي مصدر سلاح الجماعات الإرهابية في سوريا: السعودية والإمارات وتركيا. ليس بوسع أميركا معاقبة حلفائها، فهم من نواحٍ أخرى جيدون بالنسبة للاستراتيجية الأميركية.
 
في "عودة اقتصاديات الكساد الكبير" قال بول كروغمان، الحاصل على نوبل، إن النهضة الاقتصادية في كوريا الشمالية واليابان كانت من العناصر الحاسمة في زعزعة المشروع السو?يتي وهزيمته في آخر المآل. كانت الدولتان تقدمان صورة مبهرة من الرفاة والعدالة استطاعت من خلالها أن تفسد النظرية السو?يتية في قعر دارها. في كل الحروب تكون الصورة المبهرة القادمة من الجانب الآخر مزلزلة. إذ يصبح القول إن الحوثيين جماعة همجية مجرد بروباغاندا فاترة إذا كانت الصورة القادمة من عدن المحررة تؤكد إن المدينة التي استعادتها الحكومة هوت في الفوضى.
 
تلقت السعودية ضربة قاسية في عدن جعلت حربها تبدو وكأنها عملية انتقامية من جانب، وتصفية طائفية من جانب آخر. فالسعودية التي تقول إنها تهدف من خلال حربها إلى خلق استقرار في الدولة الجارة التي تفوقها من حيث عدد السكان وجدت نفسها تستمر في إلقاء القنابل على أرض مترامية الأطراف، متورطة في إصابة مدنيين وتدمير بنية تحتية دون أن تتمكن من تقديم إجابة واحدة تشرح للعالم لماذا تواصل فعل ذلك. سرعان ما فقدت تلك الحرب قيمتها الأخلاقية بالنظر إلى النتيجة الهدامة للانتصارات، عدن مثالاً.
 
حديثاً نشر مركز سلمان للإغاثة خارطة بيانية عن إنفاقه الخيري. في الخارطة جاءت اليمن الأولى بواقع 13.4 مليار دولار خلال العامين الماضيين. تكلفة الحرب السعودية في اليمن باهظة، ولا توجد معلومات مؤكدة عنها. لكن الخسارة الأكبر هي انهيار سمعة السعودية على الصعيد الدولي، وتحولها إلى دولة مارقة في الإعلام الأوروبي على الأقل. فهي، كما نقرأ في يوميات الصحف، دولة قررت أن تلقي القنابل على أفقر دولة في العالم الثالث بلا سبب.
 
على خلاف ذلك فالإمارات تتدثر بتمارين الحرب على الإرهاب: فبالرغم من أن الإمارات قامت بواحدة من أكبر عمليات الإنزال العسكري في العالم الثالث في عملية تحرير عدن إلا أنها تقدم نفسها دولياً بوصفها حاجز الصد الوحيد ضد الإرهاب في الجزيرة العربية، ولا علاقة لها بحرب السعودية في اليمن. ذلك ما دفع دول كبرى إلى الامتناع عن تصدير أسلحة إلى السعودية مع استمرار تزويد الإمارات بما تريده.
 
الإفساد الذي تقوم به الإمارات في اليمن لا يراه أحد، فالشعبويون الجنوبيون يطوفون العالم متحدثين عن النموذج المشرق للسلام والعدالة الذي أنجزته الإمارات في الجنوب. لا ينسى هؤلاء تكرار القول إن الإرهاب لا يزال يترعرع في المنطقة الجغرافية الواقعة تحت سيطرة المنطقة العسكرية الأولى، أي تلك التي على اتصال بالسعودية.
 
في الأيام الماضية انطلقت حملة واسعة على تويتر تطالب بانفصال حضرموت. بحسب صحفيين جنوبيين فإن منصات قريبة من الإمارات وقفت وراء الحملة. استقلال حضرموت ليس نهاية المطاف في عملية التفكك العظيم، فهناك خطاب داخل ـ حضرمي يقسم المحافظة العملاقة إلى: حضرموت الساحل الآمنة، وحضرموت الوادي الإرهابية. متتالية عملياتية من التشظي يقف، في نهاية المطاف، اسم التحالف وراءها. إنها، عملياً، ليست سوى هزيمة مرة للحرب السعودية في اليمن، وانهيار مؤكد للسمعة السعودية في العالم. إذ ما الذي ستجنيه دولة كالسعودية، سوى السمعة المدمرة، عندما تسفر حربها الطويلة عن تفكيك أفقر البلدان وأضعف الجيران إلى دويلات وجيوش!
 
قبل عامين قال الأمير حمد آل ثاني من داخل مستشفى، كما في الفيديو المعروف، إن الله كان رحيماً باليمنيين عندما أرسل إليهم الملك سلمان للدفاع عنهم. لكن قطر عادت، مثل دول أخرى عديدة، وأدانت حرب السعودية في اليمن. فألمانيا التي أوقفت، أخيراً، بيع الأسلحة للسعودية قالت في مارس ???? إنها مستعدة لمساندة السعودية لوجستياً في حربها لاستعادة الشرعية في اليمن.
 
المشي جوار الإمارات كلف السعودية كثيراً. استطاعت السعودية عقد قمة إسلامية من ?? دولة، ربيع ????. توصلت تلك الدول إلى بيان من ثلاث نقاط يؤكد في اثنتين منها على التسامح الديني ومكافحة الإرهاب. لكن المشكلة القطرية انفجرت بعد القمة بساعات مقوضة المكتسبات الأخلاقية التي أحرزتها السعودية. قال بن سلمان إنها مشكلة "صغيرة جداً جداً جداً". الواقع إنها ليست صغيرة فقد اشتبكت الدبلوماسية السعودية بعشرات الدول الإسلامية التي رفضت الخضوع للابتزاز في مسألة العلاقة مع قطر، وكانت من نتائجها الضمور الحاد للعلاقة مع دولة كبيرة مثل تركيا والتلاشي التلقائي لأثر القمة. أرادت السعودية أن تقدم نفسها، تلك الليلة، بحسبانها زعيمة العالم الإسلامي في مكافحة الإرهاب والتسامح الديني. لكن اشتباكها مع قطر، والعدوان الشامل المبالغ فيه ضد الجارة الصغيرة، أعاد إلى الأذهان الصورة المستدامة للسعودية. بقيت من تلك القمة عقود السلاح وذهب بيان التسامح إلى غير رجعة.
 
بعد عام كامل من تلك القمة تؤكد السعودية على صورتها: دولة كبيرة تحارب في اليمن لأسباب دينية لا علاقة لها بالتسامح، وتدعم في الجنوب تنظيمات سلفية هي الحديقة الخلفية لأي تنظيم إرهابي. أياً كان ما سيقوله السعوديون فإن هذه الصورة الختامية لدولتهم لا يمكن محوها بسهولة.
 

*مدونات الجزيرة

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر