غواية السخرية


أيمن نبيل

بين اندلاع الثورات العربيّة عام 2011 وانتصار الثورة المضادة في أغلب أنحاء العالم العربي بحلول 2015، انفتح المجال العام، وتوسعت حدود التداول الديمقراطي للقضايا السياسية والاجتماعيّة. ولوحظ هذا الانفتاح في محاور مختلفة، مثل انتشار عناوين بعض الكتب وإعادة طبعها، وعلو سقف حرية نقاش اليوميات السياسية في الصحافة المكتوبة والمرئية، بما فيها الصحافة الحكوميّة، وتزايد عدد مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، وانتشار الصحافة والبرامج الساخرة وظهور "نجوم" ساخرين جدد، وقد كان هذا المحور الأخير الأكثر تطورًا ولفتًا للانتباه. ومع انتصار الثورة المضادة، لم يتبقَ من كل مظاهر زمن الثورة إلا السخرية، وتحوّل بعض الكتاب الصحافيين نحو ممارسة الكتابة الساخرة، أو محاولة اختراق هذا الحقل بين حين وآخر، وهذه ظاهرة تحتاج لتفسير، ليس فقط لفهمها، بل ولمقاربة مهمات الحاضر والمستقبل.
 
أول أسباب انتشار السخرية هو الانفتاح الكامل للمجال العام. والسخرية السياسية بما هي سلوك عُدواني تجاه السلطة تحتاج إلى سقف حرياتٍ عالٍ، حتى تتمكن من الاستمرار وتطوير أدواتها. ولكن السبب الرئيس لنهوضها عربيًا هو توفُّر أساس تَسْييدها الرأسمالي مُسبقًا على عكس نشر الكُتب مثلًا؛ فالأساس لتسييد أي اتجاه ثقافي أو فني أو صحافي (خصوصا في مناخ ديمقراطي) هو إمكانيّة تحويل هذا الاتجاه أولًا إلى سِلعَة، وهنا تحديدًا أزمة الكِتَاب في العالم العربي، وليس الأكاذيب التي تنشر عن العربي الذي لا يقرأ وغيرها من الهُراء.
 
تحتاج السخرية السياسيّة إلى قنوات تلفزيونيّة خاصة، ورأسمال سخي يدعم هذه البرامج، ويمدها بموازناتٍ تكفي لكي تُصبح بضاعة تُدر الربح، والفضاء الديمقراطي وحده لا يكفل هذا التطوّر. ولهذا يلاحظ مثلًا أن أهم البرامج الساخرة ظهرت في مصر، حيث الرأسمال أخطبوطي ومتغوّل، ويتفوق بمراحل على أغلب الجمهوريات العربيّة في إمكاناته وعلاقاته مع جهاز الدولة، ولهذا أيضًا نلحظ الفارق الكبير بين مادة نجم السخرية الأبرز في زمن الثورة، باسم يوسف، أيام بداياته في قناته اليوتيوبيّة، ومادته في القناتين الأخيرتين والإنتاج الضخم لبرنامجه فيهما، وما وفِّر له من موازناتٍ لورش الكتابة وفِرق المتابعة وتوفير المواد، ولولاها لبقي يوسف متميزًا بين متميزين انطلقوا بعد الانفتاح الديمقراطي القصير في مصر.
 
ظهرت في الفترة نفسها برامج ساخرة في اليمن أيضًا، وحققت نجاحات نسبية بالقياس إلى حالة الرأسمال اليمني، وحجم القطاع الخاص، واستثماره البسيط في الإعلام، كما ظهر جيل من الكُتاب الشباب الذين عاصروا الثورة، وهم في العشرينيات من عمرهم، وأظهروا تمكنًا من الكتابة الساخرة، وتمكنوا بسبب شبكات التواصل الاجتماعي من تحقيق جماهيريّة عالية سريعًا.
 
هذه الشعبية التي تحصل عليها الجيل الشاب هي ما جذبت قطاعًا من الكُتاب الصحافيين نحو ممارسة الكتابة، أو نشر التعليقات الساخرة؛ فهي، في نهاية المطاف، تعتمد على موهبة إضحاك الناس، والتقاط المفارقات، ولا تحتاج، من حيث المبدأ، إلى جهود العمل الصحافي التقليدي، مثل النزول الميداني، أو الاطلاع على كتب ومراجع لكتابة المواد، أو إجراء مقابلات وغيرها. وقد أغرى هذا الأمر صحافيين كثيرين بالتوجه نحو هذا النوع من الكتابة التي تجمع فوائد كثيرة: فهي في نظرهم سهلة لا تحتاج إلى جهود، ويمكنها اجتذاب جمهور عريض وتأمين الشهرة (وهذا ليس فيه ما يعيب أحدًا). وبالتالي، تجتذب آليًا رأس المال الذي سيحرص على نشر مقالات الكاتب الساخر في صحفه، أو ربما إيجاد وظيفة له في ورش كتابة البرامج التلفزيونية الساخرة في قنواته.
 
الإشكال في هذا التحول الجزئي من قطاع من الكتاب الصحافيين (والتحول نحو نشر التعليقات الساخرة حتى في قطاع من الأكاديميين والمثقفين) يكمن في أمرين: الأول أن للسخرية السياسية، مثل غيرها من الأنشطة في المجال العام، مزالق وسقطات، وأهمُّ مزالق السخرية هي الشعبويّة، والعمل "ترسا" في مشاريع أطرافٍ ليست ديمقراطيّة بالضرورة؛ فالساخر ليس مهرّجًا، والفارق بينهما يكمن في موقفهما من الجمهور ورب العمل: المهرّج يهمه في المقام الأول إضحاك الناس وإرضاء رب العمل، أيًا كان محتوى المادة المُقدمة للجمهور، بينما يفترض أن تحكم الساخر حدود قيميّة، تُؤطّر هدفه الأساسي، وهو إضحاك الناس على واقعهم، وكسر هيبة السلطة والحُكّام والتقاليد الاجتماعيّة والأعراف السائدة.
 
الأمر الثاني أن تحويل النشاط، أو محاولة ممارسة السخرية بين حين وآخر، يضر بمضمون النقاش العام: للسخرية السياسية وظيفتها، وللكتابة الصحافيّة الجادة أيضًا وظيفتها. وبالتالي، الكاتب الصحافي أو الأكاديمي المثقف الذي يصرف طاقته ووقته في إنتاج التعليقات الساخرة هو فعليّا يهرب من أداء وظيفته، ويُفقر الفضاء العام الفقير أصلًا بالديكتاتوريّة والنزعات الاجتماعيّة المحافظة التي يساندها النظام العربي. وعلى هامش الأمر الثاني أيضًا، يحدث إفقار لمضمون الإنتاج الساخر؛ فالتهكم والتقاط المفارقات وحسن الصياغة تستند إلى موهبة وذكاء فني. ومن البديهي أن ليس كل الناس بممتلكين لهذه الموهبة. وبالتالي، ما يفعله بعض المتحولين نحو الكتابة الساخرة هو زيادة منسوب "ثقل الدم" والكآبة القائم في واقع الناس الكابوسي، ويصحّ، في بعض هؤلاء الكُتاب، المثل العربي عن الغراب الذي أراد تقليد مشي القطا فنسي مشيته!
 
بعد انتصار الثورة المضادة، حدثت تطورات جديدة في عالم السخرية السياسية؛ فبعضهم فضّل المنفى الاختياري لمواصلة عمله، وبعض آخر اتجه نحو سخرية أكثر أمانًا نسبيًا، وهي السخرية من العادات الاجتماعيّة. وفي كل الأحوال، وعلى الرغم من أن ثمّة الكثير ليبحث في موضوع السخرية السياسية ومشكلاتها وكيفية تطويرها في الواقع الراهن، حيث تحولت السخرية من شكل تعبيري في فضاء ديمقراطي إلى آخر حيل المهزوم، ينبغي تذكير صحافيينا وكتابنا أن للسخرية موهوبيها وكتابها وعالمها ووظيفتها في المجال العام، وأن للصحافة الاستقصائية والمقالة التحليلية والنقدية وظيفتها المُهمة كذلك، حتى وإن كان جمهورها يعاني انتكاسةً ظاهريةً، ولا يوفر الدعم المعنوي الكافي، كما يفعل جمهور الساخرين.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر