"سرحان" هذا الزمان


أيمن نبيل

تتداخل أحيانًا عوالم الخيال والحقيقة ببعضها، فيغدو الرمزُ واقعيًا والواقعيُّ رمزًا، ومن الأمور التي تحمل هذا التداخل المُثير صيرورة المواطن العربي، ابتداءً من سبعينيّات القرن الفائت وانتهاءً بـ 17 ديسمبر/ كانون الأول عام 2010.

للمواطن العربي شخصيّتان تُكثّفان رحلته طوال أربعين سنة: الأولى خياليّة، سرحان عبد البصير، بطل مسرحيّة "شاهد ما شفش حاجة". والثانية واقعيّة، محمد البوعزيزي، والاتصال بينهما متماسك.

يمثل سرحان عبد البصير مواطن دولة الاستقلال العربيّة عند بدايات تلبرلها الاقتصادي الفاسد، وتحلل إيديولوجيّتها الرسميّة في منتصف السبعينيّات. ولهذا ينتمي سرحان للطبقة المتوسطة التي توسعت، بفضل مرحلة رأسماليّة الدولة، ولم يُقضَ عليها بعدُ بسياسات اللبرلة، ويمارس عملًا ويستأجر شقة ملائمة. يجتهد، بشكل غير واع، لكي يطابق نموذج المواطن "الصالح" في ذهن النظام السياسي: بسيط، ووحيد، ومسالم يتجنّب أي معركةٍ مع مؤسسة الدولة القمعيّة، ويهزم نفسَه أمامها مقدّمًا؛ فنراه يدفع فاتورة الهاتف، وهو لا يملك واحدًا أصلًا! وسلاحه الوحيد في مواجهة الدولة وسلطة المجتمع الخبث البسيط والمشاكسات التي لا تؤذي أحدًا.. سرحان ليس سوى "أرنب" كبير.

في عمر الثامنة والعشرين ينهار عالم سرحان البسيط، على الرغم من طاعته العمياء وتجنّبه المشكلات، ويصطدم بالدولة بعنفٍ هائلٍ نتيجة مصادفات بحتة. يزيد من آثار هذا الاصطدام على سرحان تأليهُهُ الدولة؛ فهو لا يؤمن بالدولة باعتبارها "الأب" فحسب، بل باعتبارها كُليّة القُدرة. والمسرحيّة عمومًا مشبّعة برموز جهاز الدولة العربيّة: ضابط الشرطة، وقاضي المحكمة، والمُخبرون، والرئيس (بشكل غير مباشر).

يُضرب سرحان ويُهان، والاعتداء على الجسد هو التعبير الأكثر مباشرةً عن استباحة الدولة الإنسان، ويُجبر على فعل أشياء تتنافى مع طبيعته المسالمة ومخاوفه، وحتى مبادئه الأخلاقيّة. وتكون ذروة مأساة هذا المواطن في المحكمة التي يحضر فيها شاهدا، لكنها فعليًا محكمة مقامة له بالذات: محاكمة لحقيقته وما هو عليه. وبعد هذا الاصطدام المُدمّر، يحدث المتوقع لا ما يجب أن يكون: لا يثور سرحان على الدولة، بل على نفسه، ويعلن وفاة "الأرنب سفروت"، والأخير هو حقيقة سرحان وهُوّيته في الوجود: هذا الانتحار هو ما يقوى عليه مهزوم كسرحان. وحاول بعدها إيجاد شخصيّةٍ جديدةٍ تسمح له بالعيش والأمان في ظل شروط الحياة والدولة والمجتمع نفسها.
 
بعد 34 عامًا من ظهور سرحان، أخذت عمليّات اللبرلة الاقتصاديّة مداها في الدولة العربيّة، وتغيّرت أشياء كثيرة: سُحق الفقراء، وضُربت الطبقة الوسطى، وتمأسس الفساد الإداري والمالي، وتحللت الإيديولوجيا الرسميّة، وأصبحت الطبقة المسيطرة على السلطة والثروة بلا غطاء. ولهذا، من الطبيعي أن "سرحان" الجديد (البوعزيزي) مواطن ينتمي للطبقة الفقيرة لم يُكمل تعليمه، بسبب حاجة الأسرة إلى مُعيل، وبلا عمل يوفر له الأمان المادي والنفسي.

وهو يتجنّب أي معركةٍ مع الدولة، ويبدو أنه أيضًا بسيط ذو عالم مغلق بالمسؤوليات الأسريّة الثقيلة، ومثل أغلب المسحوقين يجتهد ليتمكّن من العيش في جمهوريّة الرئيس وزوجته وأصهاره. وفي عمر السادسة والعشرين، يصطدم البوعزيزي بالدولة، وعنفها الاعتباطي والسادي الذي ميّز دولة الاستقلال العربيّة منذ نشوئها. وحدث هذا الاصطدام العبثي في غمرة محاولة البوعزيزي تقبّل الظلم التاريخي بحقّه، بائعًا متجوّلًا للفواكه، من دون أن يكون له مكان في خطط الدولة للتوظيف أو القطاع الخاص الفاسد والكمبرادوري المتواشج مع النظام والعائلة الحاكمة.

صُفِع البوعزيزي وأُهين أمام الناس في مكان عام. وتعادل هذه الصفعة حدثين في حياة سرحان: في أثرها النفسي المباشر تعادل ضرب سرحان وإهانته في قسم الشرطة (الاستباحة)، وفي دورها التحطيمي والتحويلي تعادل مشهد المحكمة. بعد الصفعة، لم يثُر البوعزيزي على الدولة، بل لم يتجرّأ حتى على الانتقام المباشر ممن ظلموه؛ فهو مثل سرحان. لم يتقبّل البوعزيزي حقيقته إنسانا مستباحا فثار على نفسه، لكنه قرّر الاحتجاج في أثناء رفضه حقيقته، فأحرق نفسه في المكان الذي استباحته الدولة فيه، بشكل يُذكّر بتقديم الأضاحي والقرابين.

لنهاية الشخصيّتين وصيرورتهما، على الرغم من ثلث قرن بينهما، محمولات مختلفة، أهمها أن "الإصلاح" الذي ادّعاه النظام العربي، وروّجته مؤسسات اقتصاديّة دوليّة، كان ديكوريًا ولم يغيّر من أساسات الدولة العربيّة، على الرغم من التغيُّرات الاجتماعية الكارثيّة التي سببها، والتحولات في "شكل" السلطة وتركيبتها؛ فالتعامل القمعي المفرط للدولة ظلّ كما هو، وترويج الدولة كأنها دين استمرّ وتعاظم، على الرغم من ترهل القطاع العام والخصخصة الفاسدة، وأثر هذه السياسات على الإنسان، والتي تدفعه إلى كُره ذاته، والخجل منها، تفاقم واستفحل.

سيرة البوعزيزي ونهايته المأساويّة مُفسّر إضافي لذلك الشعور الطاغي بتراجيديّة شخصية سرحان، على الرغم من أنها تطفح بالضحك والنكات والكوميديا الممتازة؛ فالبوعزيزي هو شَدُّ حدود "سرحان عبد البصير" إلى أقصى (وأصعب) مدىً ممكن، وهو مدى تراجيدي مُرعب، لم يخطر على بال شخصيّة خياليّة.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر