"زينبيات".. شطائر حكومية


نور ناجي


جاهدت لتبقي نبرات صوتها ناعمة رقيقة، إلا أن الطرف الآخر كان مستفزاً لدرجة افقادها شعورها.. كالت له بصوت أجش اتهامات بالتقصير والاهمال، ورمته بالتراخي لعدم إدراج اسمها ضمن كشوفات توظيف جديدة لوزارة المالية قبل أن تغلق هاتفها.
 
حوار ساخن دار تحت دهشة المحيطين، حاولت لفت انتباهها للكرسي الذي تجلس عليه خلف "المكتب الحكومي"، في "الدائرة الحكومية" التي تعمل بها منذ سنوات، إلا أنها تجاهلت الإيماءات الصامتة...!
 
توقفت سريعاً عن المحاولة وقد تذكرت "الزينبيات" الملغمة بهن شوارع صنعاء. ("التزينب أو الزينبية"، لمن لا يعلم، هي وظيفة حكومية مستحدثة لنساء الجماعة الحوثية، وهي تجسيد حي ومبتكر لمعنى "العووووو" الذي كنا نخيف به الأطفال لينامو باكراً).
 
ألقت الهاتف بتأفف، وبدأت بإلقاء وصلة من الردح والشتم المتناغمة، ملقية على الطرف الآخر تهمة حقد وكراهية متجذرة لاسم عائلتها، لذلك تعمد الوقوف ضد توظيفها. الغريب في الموضوع أنهما ينتميان لنفس الجماعة، بل اتضح أنه كان قريبها. لكن يبدو أن اختلاف الألقاب المذيلة لأسمائهم يدخلنا في دوامة عنصرية ليست مستحدثة على التاريخ اليمني، فكلما استتب لهم الحكم لفترة قصيرة، حتى تدخل اليمن أتون صراع جديد للأكثر جدارة منهم والاكثر استحقاقاً للحكم.
 
قد تستحق تلك العداوات الخفية مجلدات ليس هذا وقتها، ولا يهمني الخوض فيها بقدر ما شد انتباهي تلك الحالة الغريبة للعابهم السائل، الذي ابتلت به ملفات وكراسي التوظيف الحكومي...!!
 
حين يُنظر للدولة والوطن على أنه "شطيرة"، يصعب علينا وقف الأفواه الجائعة عن قضمها. برغم الثراء الفاحش الذي كان أهم مكاسبهم، الا أن الوظيفة الحكومية استحقت بجدارة المركز الثاني، واصبحت الطبق الاشهى الذي لم تحسم معركة بلعه بعد...!! بعض البطون لا تشبع ولا تعاني من مشاكل في الهضم أو التخمة مهما ابتلعت...!!
 
تتساقط جبهات قتالهم واحدة تلو الأخرى، ملتهمه أبناء القبائل نيابة عنهم، بينما هم مشمرين سواعدهم في معركة متوازية ذات شكل مختلف: "هوس وشراهة وظيفية "؛ سعار لاهث يدور رحاه في أبنية الوزارات العامة والدوائر الحكومية بلا استثناء، لهم ولأبنائهم وللعشيرة الاقربين؛ لا تشغلهم أنباء الهزائم عن هذه الملحمة...! فأي فرصة سانحة للاستيلاء على الباطل، وأي مقعد يندرج تحت بند "الحرام"، هو حق متنازع عليه. ولأكون منصفة ليسوا الفئة "المتهافتة" الوحيدة في ساحات الوظائف، لكنهم الاكثر مثابرة..
 
الجميع مشارك في مهرجان الشطائر الحكومية، فمن كان يحمل وظيفة سابقة يقاتل بشراسة من أجل الحصول على أخرى، والأقل تواضعاً يقبل على مضض ترقية يتجاوز فيها كرسي من سبقه ومن هو أحق منه...! استحدثت الوظائف، وأدرج في كشوفات موظفي الدولة أصحاب الشركات الخاصة وذوي النفوذ. حتى الأمي الذي لم يدخل مدرسة واكتفى في سنوات عمره الأولى بالشمة وملازم الحسين، لم يُهمَل في خضم هذه الحمى...!
 
حالات غريبة وصلت بتوافد بعض من مهاجريهم في الخارج، وممن استوطن وحمل جنسيات دول أخرى، مع بداية الانقلاب، لينال نصيبه هو الآخر من الشطيرة، ولا يعود لوطنه البديل حتى يتأكد من إدراج اسمه...!
 
كنت أظن بأن الإنسان الطبيعي يسعى للخروج من مظلة الوظائف الجامدة، بدخلها المتواضع وضيق افقها، ليتحرر ويطلق العنان لمواهبه وطموحاته، لكن تلك الجماعة تنحصر امنياتها في قوقعة وظيفة لن تضيف لصاحبها ولن يضيف إليها شيء سوى الدخل الهزيل الذي يقي الموت جوعاً، إن قرر أن لا يكون لصاً..
 
قد يكون سر ذلك الجنون (الوظيفي)، أن معظم من استولى على وظائف الدولة يعلم يقيناً بأنه لا يمتلك مؤهلات كافية لعمل شيء آخر، ولن يجد له فرصة سانحة أكثر من هذا التوقيت، فالألقاب لن تمنح الكثير بعد الحرب.
 
وقد تكون العقدة الازلية: "الحق الإلهي في الحكم". ومثلهم لن يقبل بغير إحراق البلد للمرة الألف من أجله..! مهما ادّعوا القوة، يعلمون بأن أيام حكمهم صارت معدودة. وكما وصلوا لمفاصل الدولة بعد ثورة سبتمبر، سيعملون على إعادة مشروعهم الأزلي، سواء كان عبر مقعد وزاري في حكومة جديدة، أو من خلال كرسي مهترئ في دائرة أرشيفية لسجلات الموتى...!
 
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر