لعل أقسى درجات الانحدار الأخلاقي في الحروب هي تلك التي يتحول فيها الغذاء إلى سلاح؛ وحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، فإن الغذاء صار سلاحا في الحرب اليمنية المستعرة. واليوم يقف "اليمن السعيد" على حافة أسوأ مجاعة وقعت في العالم خلال العقود القليلة الأخيرة، فيما وصل فيه وباء الكوليرا معدلات قياسية هي الأعلى عالميا.

يرزح اليمن منذ 2014 تحت وطأة نزاع دام يبدو ظاهريا بين فرقاء يمنيين (هم الحوثيون وقوات الرئيس المخلوع علي عبد الله صالح من جهة، والمقاومة اليمنية وجيش حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي من الجهة الثانية)، لكنه -في واقع الأمر- نزاع مرير بين إيران والسعودية.

وحسب أرقام الأمم المتحدة، فقد خلّف هذا النزاع نحو تسعة آلاف قتيل و58 ألف جريح، ومليونا ونصف مليون نازح. كما أدى النزاع إلى انهيار النظام الصحي وإغلاق مئات المدارس، فضلا عن تأثر نحو 13 مليون يمني بالمجاعة وإصابة مليون آخرين بالكوليرا بحلول نهاية العام الحالي 2017.

والحرب الحالية هي الحرب الثالثة باليمن خلال الخمسة والخمسين عاما الماضية، والعامل المشترك بين اثنتين منها اصطراع قوى إقليمية بأدوات يمنية وبتدخل مباشر. وقد ظل الشعب اليمني يدفع فاتورة هذه الحروب، لكن الحرب الحالية تُعتبر الأعلى فاتورة.

كارثة إنسانية

شهد نوفمبر/تشرين الثاني الحالي تصاعدا خطيرا في الصراع اليمني، ولم تراع الأطراف المصطرعة الوضع الإنساني المتدهور. فبعد استهداف الحوثيين العاصمة الرياضبصاروخ باليستي؛ أعلنت السعودية -التي تقود تحالفا عسكريا- إغلاق المجال الجوي.

كما أغلقت المسارات البرية والبحرية المؤدية إلى اليمن في المناطق التي تسيطر عليها، والتي تقول إنها تمثّل 85% من الأراضي اليمنية، وذلك بدعوى منع وصول الصواريخ والعتاد العسكري إلى المليشيات الحوثية من إيران.

وإثر ذلك؛ دعا مجلسُ الأمن الدولي التحالفَ إلى إبقاء المنافذ البحرية والجوية مفتوحة، لإيصال المساعدات الإنسانية إلى الشعب المهدد بوقوع أضخم مجاعة شهدها العالم منذ عقود. وتأتي دعوة المجلس رغم مزاعم التحالف بأن الإغلاق سيُراعي استمرار دخول وخروج طواقم الإغاثة والمساعدات الإنسانية، وفق إجراءات قيادة قوات التحالف.

وتفضح الأرقام الرسمية حجم التجاهل المتعمد للكارثة الإنسانية في اليمن بسبب هذه الحرب الضروس، مع غياب أي مؤشرات على انتهاء الصراع. ومنذ أغسطس/آب الماضي حذرت منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة من تفاقم المجاعة في اليمن، حيث يعاني أكثر من 500 ألف طفل من سوء التغذية الحاد.

وأظهرت دراسة لبرنامج الأغذية العالمي أن ما يقارب 13 مليون شخص يواجهون انعدام الأمن الغذائي الشديد، بينهم ستة ملايين يواجهون حالة طوارئ. وقد بلغ الأمن الغذائي درجة الخطورة لدى 1.3 مليون يمني نازح داخل البلاد. وتفيد الإحصائيات بأن نحو 63 ألف يمني ماتوا العام الماضي لأسباب يمكن تفاديها، أغلبها متعلق بسوء التغذية.

ولا صوت يعلو فوق صوت قعقعة السلاح رغم الاستغاثات والتحذيرات، حيث إن استمرار الغارات الجوية والمعارك يؤدي إلى سقوط المزيد من الضحايا، وتخريب المنشآت والبنى التحتية العامة والخاصة، ويعرقل وصول المساعدات الإنسانية. وكانت العمليات الإنسانية أصيبت بالشلل التام مع بداية العمليات الحربية في مارس/آذار 2015، الأمر الذي فاقم حجم الكارثة.

فقد أجلت السعودية أكثر من مئتيْ موظف -بينهم موظفون أمميون وعاملون في سفارات وشركات أجنبية- من صنعاء بطائرات إلى إثيوبيا وجيبوتي، ولم يبق إلا الموظفون الضروريون للمهام الإنسانية الطارئة. بل إن مخازن الأغذية الإغاثية كان لها نصيب مقدَّر من القصف والاستهداف.

خطل السياسة

بدأ تدخل التحالف العسكري في اليمن مستندا إلى مبررات بدت وجيهة ومنطقية، بيد أن هذا التدخل كان يُخفي وراءه في الأساس هواجس سعودية من نفوذ إيراني بدأ يتمدد في اليمن عبر الحوثيين المدعومين من طهران، خاصة بعد ما استولوا على العاصمة صنعاء وانقلبوا على حكومة هادي في 21 سبتمبر/أيلول 2014.

وتقدم هادي برسالة إلى قادة دول مجلس التعاون الخليجي، داعيا إلى التدخل عسكريا لمواجهة غرمائه الحوثيين. وقررت هذه الدول الاستجابة لطلب هادي عدا سلطنة عمان، ولاحقا انسحبت قطر من التحالف على إثر الأزمة الخليجيةالتي اندلعت في يونيو/حزيران الماضي.
 
لقد ظنت السعودية أن دخول الحرب الحالية لصالح حكومة هادي ضد مليشيات الحوثي نزهة. وهكذا سمّى التحالفُ -بقيادة الرياض- بدايةً عملياتِه باليمن "عاصفة الحزم"، طوال الفترة ما بين 25 مارس/آذار و21 أبريل/نيسان عام 2015.

وذلك على اعتبار أنها فترة كافية لتحقيق النصر والحسم عبر التدخل العسكري، القائم أساسا على غارات جوية ضد الحوثيين والرئيس السابق علي صالح المتحالف معهم. لكن "عاصفة الحزم" لم تتمكن من تدمير قوة الحوثيين، أو وقف تقدمهم نحو المحافظات الجنوبية، أو حتى إيقافهم عن شن هجماتهم على الحدود اليمنية السعودية.

إن إنقاذ اليمنين من مستنقع الحروب المتطاولة ليس بيد الأمم المتحدة الكسيحة، ولا حتما بأيدي المتصارعين الإقليميين الذين تمسك بتلابيبهم مصالحهم؛ فالحل والإنقاذ بأيدي اليمنيين وحدهم. ولذلك عليهم تدبر قول الإمام الشافعي:
ما حكَّ جلدَكَ مثلُ ظُفْرِكَ ** فَتَوَلَّ أنْتَ جَميعَ أمْرِكْ.

فالمسؤولية الأولى تقع على عاتق النُّخب السياسية اليمنية التي ارتضت أن تكون بلادها مسرحا لصراعات القوى الإقليمية تحقيقا لمصالحهم الضيقة، وليس من بين اهتماماتهم أن يدفع الشعب اليمني فاتورة ذلك تقتيلا وجوعا ومرضا وتشريدا.

واليوم إن لم تقتل اليمنيين القنابل فإن مصيرهم الموت البطيء والمؤلم بسبب المجاعة ومرض الكوليرا، والسبيل الوحيد لتفادي المجاعة والكوليرا هو الوقف الفوري لإطلاق النار. ولا جدوى لأي حملات إغاثية دون التوصل إلى حل سياسي في البلاد، يتواضع عليه اليمنيون بكل طوائفهم وتوجهاتهم السياسية والعقدية.

ومن المفارقات -التي لا بد من أن تلفت نظر اليمنيين- أن التدخل في بلادهم قائم على مصالح القوى المتصارعة على أرضهم، وأن المزاعم العقدية ليست سوى غطاء يُقنَّن به التدخل السافر؛ فمن قبل التقى -إبان حرب 1962 في اليمن- السعوديون والإيرانيون ضد مصر جمال عبد الناصر، ودعموا في نفس الوقت طرفا يمنيا واحدا هو النظام الملَكي الشيعي الزيدي!!
 
*الجزيرة نت

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر