الطفل أسامة .. كبير في زمن الصغار!


إفتخار عبده

صدفةٌ في طريقي، لقيته يجري بخطوات سريعة للغاية، ويلهث مستمرا بجريه .. أدهشني اهتمامه فأردت أن أوقفه لأستفسر عن  أمره ، وناديته.
 
إنه طفل في دون العاشرة من عمره يلبس بذلة مرتبة بعض الشيء، يسمى"أسامة"، وأسامة يقال إنه من أسماء الأسد.
 
على وجهه قسمات تعب كبيرة، وبين عينيه تتحدث قصة ألم واسعة، وعلى شفتيه ترتسم ابتسامة هادئة تذيب الأحجار.
 
يحمل بيده اليمنى ميزانا لوزن الأجسام كأنه يحمل كتاباً ثقافيا.
 
توقف بكل شموخ وعزة، أخجلتني وقفته تلك إذ لم أرَها قط لدى طفل بمستواه، ولا أبالغ لو قلت إنها غير موجودةٍ لدى الكبار.
 
 ( أيش )؟ قالها بابتسامة عريضة تخجل لها كل الجباه.. صمتُّ ولم اسطع  أنبس بكلمة واحدة ..لاأدري مالذي أخجلني أمام هذا الطفل الفطن.
 ( تشتي توزني )؟، هكذا قال الطفل!
 
 نعم،  ياصغيري ماذا أوزن  ؟ هل لم يبقَ لنا بهذا الواقع إلا تربية الأجساد؟ !
 
ياصغيري كل شيء يؤول إلى الزوال والفناء، فقد أخفى كل جميل.. ياصغيري أجسادنا يأكلها التعب والجوع والعطش والخوف والقلق  لكن لا يهمنا..كل مايهمنا أن نعيش بسلام  فيما أن هناك من يربون أجسادهم ويشحنوها أكلاً فاخراً ولا مبالاة ويتفاخرون بتربية البطون.
 
تريد مني أن أوزن؟
 
قال: نعم ، وأصدر ضحكة جميلة وأنزل الميزان من يده على الأرض بعد أن قام بتحريك بطاريته بشكل سريع لتظهر عليه الأرقام.
 
صعدتُ على ميزانه وفي رأسي تثور آلاف الأسئلة وخيالي شاردٌ في حاله، أيقضني من شرودي قوله : ياخالة اطرحي الشنطة .
 
سألته كم لك تعمل بهذا وما اسمك، امتعض قليلاً ورفع عينيه  بخوف ودهشة لكأني سأسرق منه شيئاً ،
قلت : لا عليك مجرد سؤال وإذا ماضايقك لن أكرره ثانيةً.
 
شعر بنوع من الأمان وقال : اسمي أسامة ..أعمل من لما مات أبي.
- ومتى كان موته
 
- مش داري بس أمي اشترت لي هذا وقالت لي أكون أخرج به جنب المدارس والجامعة، وإلا في الطريق
 
إنه في صغره يعول أسرة كاملة  يخرج من الصباح ويعود ظهراً ..ويواصل العمل من العصر حتى المغرب   يعمل بميزانه اليدوي.. بابتسامته ونشاطه يستطيع أن يجعل أسرة كاملة لاتشعر بالعجز الكلي فهو يغطي ولو بعض حاجياتها .
 
فالأمل إن قتل من الكبار فهو محفور بقلوب الصغار حفراً لن تردمه المصاعب والمصائب.
 
يتحدث الصغير أنه ترك المدرسة عن رضىً وقناعة.. لقد شعر بمسؤولية تجاه أسرته؛  فأمه تخبره بأنه رجل البيت وهو يحب هذا اللقب!
 
كان يتحدث بشكل سريع،  وهو يلتفت هنا وهناك وكأن شيئاً ما ينتظره .. نزلت من على ميزانه فرفعه سريعاً ثم قال" ثلاثين  ياخالة ".
 
- هل تأخذ من كل شخص 30 ريالا؟
 
أدار رأسه ثم قال : (بعضهم يجيب ثلاثين وبعضهم يكون مافيش معه صرف ويجيب مائة. وبعضهم كذا..)
 
- وكم تجمع باليوم، سألته؟
 
ليش تسألي(أحيان ألفين وأحيان ثلاثة وأحيان 500 ريال  ) أجاب الطفل!
 
قلت : هل تكفيكم بالبيت هذه الفلوس ؟  حرك  شفتيه وقال : (مدري بس أمي قالت لي  إنهم لمايسجلوا أبي أنه مات شهيد بنلاقي  فلوس ومدري ) !
 
إذن،  أبوك مات شهيداً أيها الصغير، وتركك لأعباء الحياة وعنائها؛  فهل حقاً سيُكتب  أبوك ضمن الشهداء وستلاقون مستحقاتكم، أم أنكم كغيركم  ممن لا يجدون قوت يومهم وهم الذين ضحوا للوطن بالغالي والنفيس ؟؟!!
 
،هكذا كنت أحدث ذاتي بصمت كبير متعجبةً لعجله واهتمامه وهروبه من أسئلتي.
بعد قليل من الوقت، حمل ميزانه وذهب بخطوات ثابتة،  يهمهم بأغنية وطنية، يكسَّرُ أبياتها  لكأنه يسخر من الأغنية،  إذْ لم يجد لها في الواقع حقيقة، فنحن في واقع مثخن بشتى معاني البؤس  والحرمان، وفي حياة مليئة بالصراعات والحروب، التي جعلت ملايين الأطفال اليمنيين يكافحون من أجل البقاء، ويحلمون في واقع فيه أدنى مقومات الحياة من صحة وتعليم وعيش.
 
جعلت أنظر إليه بإعجاب، وتدور الأسئلة برأسي، في الوقت الذي أتت إجابات لها من هنا وهناك حتى غاب عن عيني وغابت تلك الفطنة واللباقة والأسلوب الجميل الذي لايمتلكه الكبار.
 
كان يهرب من أسئلتي وكأنه مُحذَّرٌ من بيته عن عدم التحدث للغير.
 
لك الله ياأسامة ، وصبراً أطفالنا إن الله معنا!

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر