أسرى العدسات


نور ناجي

 يمكننا اعتبار الرسومات التي عثر عليها في بعض كهوف جبال اسبانيا، والتي قدر زمنها لما قبل 65 ألف عام، أقدم محاولات الإنسان المعروفة لتوثيق واقعه، بعد أن كانت آثار كفوفه المغموسة بالألوان هي الدليل الذي تركه لإثبات وجوده لمن سيأتي بعده..
 
عشق الإنسان اللوحات والقطع الفنية، طريقة مزج ألوانها ونحتها، لحظات ولادتها ومسار تنقلها، أمضى وقت لا بأس به وهو يفكر في اللحظات التي قضاها صانعها أمامها.. لوحات حزينة وأخرى تجلب الفرح، منحوتات غاضبة وأخرى تدعوك ملامحها للتفكير، حتى ما اعتبره البعض قبيحاً أو مخيفاً لم يخلو من معجبين ومؤيدين للحظة تدوينه.
 
قد تكون أسباب ذلك العشق، جمال يرجو الإنسان خلقه وتخليده، طريقة محتالة لسرقة بعض من الزمن والاحتفاظ به، تدوير لذكرى، أو تشبثاً بالحنين.. استمر في ذلك حتى أمسى الفن هو الوسيلة المثلى لتمجد الشعوب أرواح أبطالها، وتستحضر الصالحين الأوائل الذين كانوا بأمس الحاجة لحكمتهم.
 
وكعادة البشر في إفساد كل شيء، لم يمر ذلك التعلق بسلام، ودفع ثمن باهظ لذلك الشغف حين حولت غالبية الشعوب صورها ومنحوتاتها إلى آلهة وأرباب، رجوا رضاها وتجنبوا غضبها بعبادة حارب الإنسان وقاتل في سبيلها مئات بل آلاف من السنين حتى تلطخت سمعة تلك القطع الفنية بالعار..
 
وعلى الرغم من توقف الإنسان عن تلك الممارسات وإدراكه لخطيئة ما قام به، إلا أن خطيئة تلك العبادة مازالت تلاحق الفن أحياناً من قبل بعض الجماعات المتطرفة؛ لكن ذلك لم يكن سببا ليتوقف الإنسان عن شغفه الذي تطور وتضاعف حتى حدثت الطفرة التكنولوجية الهائلة التي لم تستثنى منها الفنون..
 
لم تعد سرقة الزمن حكرا على الرسامين، بعد أن أصبح كل شخص فنان متمكن بمجرد امتلاكه لكاميرا هاتفه الشخصي، وفاقت عدد الصور، التي تم التقطها في السنوات الأخيرة من القرن الحالي، ما رسم ونحت والتقط على مر التاريخ..
 
يبقى ذلك الشغف والهواية ممتعة ومقبولة في إطار أن يبقى الإنسان هو المتحكم الفعلي بها، لا أن يتحول ذلك الرصد الى هوس وسوق بلا معايير، أفقد الصور بعض من قيمتها وبريقها، ليعيد ذلك الإفراط إلى الأذهان عادته القديمة..
 
هل انتهى الإنسان من مبالغاته أم أنها طبيعته التي فطر عليها؟! تطرح ذلك التساؤل، وأنت ترى كيف أمسى البعض أسيرا لعدسات كاميرات أخذت تسرق أوقاتهم بشراهة، واستبدلت خصوصية حياتهم الواقعية بإدمان نشر يوميات كانت هي من حدد طريقة عيشهم لها ومدى قيمة ذلك العيش، وجدواه.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر