صمت شعب..


نور ناجي

 يُحكى أن أحد الحكام أمر بزيادة في أموال الجباية المفروضة على أفراد مملكته بعد أن استثنى الأموات، لشبهة عدم قدرتهم على الدفع. لم يكن القرار غريب، فقد كان كافة الشعب على علم مسبق بأن إقرار الضرائب، ودفع الاتاوات، هي الوظيفة الرئيسية، إن لم تكن الوحيدة ربما للحكام والملوك آنذاك. فالمملكة، على مر الزمان، بحاجة للمال من أجل حماية نفسها، ورسم خطط تنميتها، وتسهيل أمور حياة من يديرها..
 
"طفح الكيل"!.. هتف المواطن الذي لم يقبل بذلك المرسوم. فلم يكن قد أزاح عن كاهله بعد، مجهود تسديده فواتير العام المنصرم..
 
أغلقت الحوانيت أبوابها اعتراضا على جور المرسوم، ولم تتوقف ألّسنة الشعراء المعارضين عن الشجب والتنديد، عمت المظاهرات أرجاء البلاد، وجابت الطرقات والأزقة، بل وتجاوزت حدود الأدب، حين تعمدت اقترابها من حدود شرفات قصر الحاكم ونوافذه..
 
استمع الحاكم لتلك الهتافات، زمّ شفتيه بغضب، لن يتراجع عن قراره أبدا، فأي تخاذل منه سيعتبره الغوغاء انتصارا لهم.. ومن يدري ما الذي قد يحدث إن أظهر لهم ضعفه !! "سيرضخون لي في نهاية المطاف"، قالها وكان على حق. فلم تمضِ بضعة أيام حتى عادت الحوانيت لفتح أبوابها، وتلّهى شعراء المملكة وقصاصيها بحربهم ضد المسلسلات التلفزيونية التي بدأت تسرق اضوائهم، ليفقد بعد ذلك الشباب الثائر عزيمتهم..!
 
ودفعت تلك الزيادة في الضرائب، في نهاية المطاف..!
 
لم يكد يمضِ العام، حتى عاد الحاكم لإصدار مرسوما جديدا بزيادة مستحدثة لأموال الجباية. وقد كان مبرره هذه المرة: سقوط قيمة "الدينار" امام بقية العملات الأجنبية، ولا ينبغي له- كحاكم حريص- استنزاف احتياطي المملكة. عادت التظاهرات مرة أخرى، وهذه المرة على نحو أشد، خاصة مع ارتفاع أسعار السلع. واستمر الاضراب بضعة أيام، قبل أن ينهزم الشعب، ويدفع الزيادة الضريبية مجددا..
 
وهكذا.. على مدى أعوام؛ تبادل كلٌ من الملك وشعبه التحدي: زيادة في الضرائب، مقابل مظاهرات صاخبة منددة، لا تلبث أن تتوقف، حتى جاء ذلك النهار المحدد فيه إقرار الزيادة الجديدة. وضع الحاكم ختمه على مرسومه، قبل أن يجلس على شرفته، ممسكا بكيس من "الفشار" المستورد، باهض الثمن، يسليه لحظة مرور هتافات شعبه..
 
مر الوقت، وأنهى الحاكم حبات "الفشار" دون أن يحدث شيء..!! هل كان ازدحام المرور هو من أعاق تسيير التظاهرات الشعبية وعمل على تأجيلها، ربما؟! أم كانت حرارة الصيف هي الفاعل؟!- سأل مستشاريه دون أن يجد جوابا..!! ومنعه الأرق تلك الليلة من النوم، فأخذ يتنقل بين الشرفات باحثاً عن فوضى، أو شغب ما، يريحه ويزيح عن كاهله هذا الأرق والهواجس.. أصاخ سمعه مجددا، علّه يسمع شاب ضال يقذفه بالشتائم، ولكن دون جدوى. ما الذي حدث للشعب؟! كان يفضل الشتائم على ذلك الصمت المريب!!..
 
مرت الأيام دون أن يسمع الحاكم دبيب نملة على الطرقات، وتوالى أرقه وسهره مع الصمت والهواجس: "هناك ما يحاك ضدي؛ لكن ما هو، وما الذي يتوجب علي فعله"؟! لم يكن التوقف عن الكلام  من ضمن جرائم المملكة، كما لن تتسع سجونه لكافة أبناء الشعب..
 
 فجأة انتابته موجة من الجزع، وأسرع لأوراقه، وخط عليها مرسوما الغي فيه كافة الضرائب التي كان قد أصدرها منذ توليه الحكم، وحتى تلك التي سبقه إليها حكام قبله، ليستيقظ النهار على ضجيج المارة. تنفس الحاكم الصعداء؛ لكن ذلك لم يعفه من ضريبة وقعت عليه بفقدان نومه المطمئن، وقد امسى غير آمن من مكر شعبه..
 
وانتهت الحكاية.
 
هل انتهت فعلا، أم أن فصولها مازالت تدور في أرجاء صنعاء، التي قررت منذ فترة ارتداء الصمت. صمت غريب، لا تعرف ما الذي يخبئه أصحابه، عدى نظراتهم التي تطفح بين الحين والآخر بالقهر والغضب. قد يقول البعض إن صمتهم مجرد خنوع يائس، وقد يرى الآخر أن القلوب مغلقة على ما تحمل، وهناك ما يحاك في ثناياها وينتظر فقط لحظة انطلاقه..
 
كان الحاكم في الحكاية الأولى ذكياً، ليتجنب مرحلة ما بعد الصمت، التي لا يكون السكون هو ما يتبعها غالباً. هل تنبه حكام صنعاء- من الانقلابيين- للشعب الغارق في الصمت، وبدأوا بالترويج لصراع محتمل، بين كل من المشاط ومحمد الحوثي؟! ربما أرادوا بتلك الشائعات كسر سكون الشعب المقلق، واشغاله عن المظالم الواقعة عليه بأمل كاذب يطمئنهم بقرب الخلاص منهم!..
 
وقد تكون تلك المعركة حقيقة، وتنبئ عن قرب- ووجوب- التخلص من إحدى الرؤوس المتصارعة !! فلم يبخل علينا تاريخ الإمامة من صراعات دامية بين أبنائها، وليس ما يحدث سوى حلقة جديدة منها!! يدعونا هذا الاحتمال للتساؤل: هل امتلكت أذرع الحوثي أمان البقاء في الحكم والسيطرة عليه، لتنشغل بمعارك جانبية، مازال الوقت مبكرا عليها، أم أن آفة الطمع هي من تحرك قادتها؟!..
 
المدهش؛ أنه، وبالرغم من كل الاحتمالات، لم تستطع الاشاعات الصاخبة زحزحة المواطن الواقع تحت سيطرتها عن صمته، ولم تترك أنباء تلك المعارك أدنى أثر عليه. وكأن ما يحدث يخص شعب آخر، لا يمت له بصلة. هل فقد المواطن إحساسه بما حوله حقاً، أم أنه متمسك بحالة الغضب المغلفة بالسكوت، وخشية افراغها، ما أراده لها من نهاية ؟!..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر