‏طريق هجرة ..


نور ناجي

كبرنا في العمر واكتشفنا أن الاوطان كالغواني اللواتي لا يعشقن سوى البحارة الأكثر سوءً، تتبادل معهم الاحضان على الرغم من الكراهية والموت الذي يتقيئونه عليها. 

من الصعب معايشة الكراهية أو مواجهة الموت بشجاعة، لذلك هاجر الكثير ويجدّ الأكثر في بحثه عن رحلة تبعدهم عن مثل هذا الجنون. فالأمان وطن كاف بالنسبة للبعض..

‏يقضي الانسان حياته باحثا عن الكمال على الرغم من ثقته المطلقة بعدم وجوده على سطح هذه الأرض، لذلك يرحل اليمني عن أرضه وهو يعلم يقينا أن هجرته سوف تاخذه بعيداً عن ما يكون؛ منزله، عائلته، مغامراته السرية مع إخوته، الريالات التي كان يجمعها لإنشاء دوري كرة قدم في الحارة، سور مدرسته، نبض قلبه الأول، ورقصة "البرع"، والتخزينة في عرس أعز اصدقائه..

‏لكنه يرى أن ابتعاده عن الكراهية والموت  المستعران، سبب يستحق الهجرة. ليس الأمر بالسهولة التي يتوقعها البعض، فبعد اتخاذ قرارك، عليك خوض صراع مع رحلة موت تقل فيها احتمالات النجاة عن تلك في بلدك..

‏منذ سنوات ليست قليلة، لم يعد اليمني يملك رفاهية السفر الانساني، فقد انضمت دولته لقائمة الدول التي يرمقها العالم بأعين متوجسة مرتابة؛ لابد وأنه يحمل جزء من ثقافة الموت والكراهية التي يصنعها بلده وليست هجرته سوى وسيلة لتصدير تلك الثقافة للعالم. ومهما علا وجهه سخام التعب والخوف من الصعب، نزع تلك التهمة عنه ..

‏يتعلم طالب الهجرة الكثير..  في البدء يجب عليه عدم تصديق وعود سماسرة الرحلة للمحطة الأقرب، السعر المبالغ فيه، الظروف القاسية التي سيمر بها واحتمالية التخلي عنه في منتصف رحلته، ..، إلا أنه مجبر على القبول والدفع بلا ضمانات. يتسائل وهو يقبض على حقيبة همومه، بينما يتمايل به المركب، إن كانت عائلته مازالت تحتفظ بما يمكن بيعه والاستفادة منه ليكمل سفره؟ يدرك أنه قد يواجه الموت غرقاً، اختناقاً، أو جوعاً، لكنه غير مبال، فقد عبر قبله محظوظون وقد ينال حظهم.

‏يشترط على المهاجر البؤس، وحمل ملف مهترىء، ثبت عليه صورة شخصية بائسة، وبعض النكبات التي فر منها، حتى يستحق منحه حق اللجوء. سيقف أمام المرآة لساعات طويلة وهو يدقق في قسمات وجهه ملياً، فاي اهتزازه أو ارتعاشة في غير محلها قد تكون السبب لرفضه وعودته لجحيم الكراهية..
‏ 
‏يصل البعض ويبتلع النسيان. إلا أنه، وبعد أن تنتهي دهشة وصوله، يكتشف أنه لم يجد كافة أحلامه!! أو أنها لم تكن كما توقع، ربما لن يجد فيها أوجاع مألوفة؛ لكنها لن تكون خالية من وجه الكراهية، الذي لا يتبدل، والذي جعله في المقام الأول مهاجرا..

فالكراهية حالة مجردة لا تختص بها أرض ولا يحددها عنوان..

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر