‏أحزان وإصرار..


نور ناجي

‏وكأن شاعرنا الكبير عبد الله البردوني كان على علم بأن اليمني لم يختتم مشوار أحزانه بعد، فأنهى شطر البيت الأول من قصيدته الشهيرة " أحزان وإصرار " بالشرط الأساسي لتخطي معاناتنا:
‏شوطنا فوق احتمال الاحتمال
‏فوق صبر الصبر، لكن لا انخذال
 
‏يحدث أن تصاب بالخذلان، أو تصيب نفسك به، لتقف وحيداً حائرا أمام ما تشعر به، أنت لا تستطيع إزاحة ما ألم بك من وجع، وعاجز أيضاً عن المضي قدماً، وكأن عجزك عن الحركة دين لا بدّ أن تستوفيه ثمنا لسذاجتك، أو لعدم كونك قوياً بما فيه الكفاية لحماية نفسك.
 
‏لعل هذا هو حال اليمني الآن، الذي قضى حياته في سلسلة من التوقعات والاحتمالات، وربما الخطط البديلة التي لم يؤخذ رأيه فيها، لكنه وقع على كل حال في نتائجها، حتى جاءت اللحظة التي قرر فيها الانهمار، لم يعد البكاء عيب، خير لك أن تبكي على أن تسمر حياتك في حيرة لا ينتج عنها شيء:

‏نغتلي، نبكي، على من سقطوا
‏إنما نمضي لإتمام المجال
 
‏لم يعد لليمني شي يفقده، فقد سبقه اخاه في طريق البحث عن الحرية وعليه أن يكمل هذا المشوار مهما كان قاسياً ومراً، فهو قدر مكتوب عليه لا بدّ وأن يمضي به دون أن ينظر للخلف أو يشتكي طول المسافة وجورها، على العكس من ذلك يتوجب عليه من أجل اجتياز محنته، التغني بأوجاعه والعزف عليها:

‏دمنا يهمي على أوتارنا
‏ونغنّي للأماني بانفعال
‏مرة أحزاننا، لكنها
‏ـ يا عذاب الصبر ـ أحزان الرجال
‏نبلّع الأحجار، ندمى إنما
‏نعزف الأشواق، نشدو للجمال
‏ندفن الأحباب، نأسى إنما
‏نتحدى، نحتذي وجه المحال
 
‏لم يعدنا شاعرنا الكبير بطريق سهل مفروش بالأزهار، بل ذكرنا ببدايته الصعبة المستمرة إلى يومنا الحالي فلم تسدد فاتورة الأرض مهما اعتقدنا، سنضطر لدفع المزيد حتى لا يبقى لدينا ما ندفعه:

‏مذّ بدأنا الشوط، جوهرنا الحصى
‏بالدم الغالي وفردسّنا الرمال
‏وإلى أين؟ غرفنا المبتدئ
‏والمسافات ـ كما ندري ـ طوال
‏وكنيسان انطلقنا في الذّرى
‏نسفح الطيب يمينا وشمال
‏نبتي لليمين النشود من
‏سهدنا جسرا وندعوه: تعال..
 
‏توجعنا الهزائم المفجعة التي نتلقاها بين الحين والاخر، نقترب ونحن في غمارها من لحظات تفقدنا إيماننا أو تكاد، نلمس اليأس بأكفنا لنكون أقرب ما يمكن من الاستسلام وإعلان الهزيمة التي لا نصر بعدها لكننا وفي قمة ذلك اليأس نصحو رافضين الانقياد له، لنستدعي الحياة مرة أخرى وبمنتهى الإصرار، فقد تعلمنا من سلسلة احزاننا أننا أقوى مما نظن وإن معاناتنا هي من تنبتنا مرة أخرى كطائر رخ لا يهزم:

‏وانزرعنا تحت أمطار الفناء
‏شجرا ملء المدى، أعيّا الزوال
‏شجرا يحضن أعماق الثرى
‏ويعير الريح أطراف الظّلال
‏واتّقدنا في حشى الأرض هوى
‏وتحوّلنا حقولاً، وتلال
‏مشمشاً، بناً، وروداً، وندى
‏وربيعاً، ومصيفاً وغلال
‏نحن هذي الأرض، فيها نلتظي
‏وهيّ فينا عنفوان واقتتال
‏من روابي لحمنا هذي الربى
‏من ربى أعظمنا هذي الجبال
 
‏من سخرية القدر، أن يكون الموت أقصى ما يهدد به الشعب ويتوعد به، الموت الذي أمسى حدث اعتيادي، حتى أن اختفاء قوائمه أو التخفف منها صار هو المريب لليمني، فقد اعتاده حتى أنه لم يعد يشكل له تهديد حقيقي، نموت ؟!، وماذا بعد، ما المخيف في هذا التهديد ؟!:

‏ليس ذا بدء التلاقي بالردى
‏قد عشقناه وأضنانا وصال
‏وانتقى من دمنا عمتّه
‏واتخذنا وجهه الناري نعال
‏نعرف الموت الذي يعرفنا
‏مسنّا قتلا، ودسناه قتال
‏وتقحمنا الدّواهي صورا
‏أكلت منّا، أكلناها نضال
‏موت بعض الشّعب يحيي كلّه
‏إنّ بعض النقص روح الاكتمال
 
‏لن تنتهي الاحزان عن زيارتها الثقيلة حتى نستوعب الدرس المفروض علينا ونستحق النصر، ولن نكون كذلك حتى نقدر تضحية من سبقنا ايا كان ونلغي جميع الفروق التي وضعناها يوماً ما سداً بيننا:

‏ها هنا بعض النّجوم انطفأت
‏ كي تزيد الأنجم الأخرى اشتعال
‏تفقد الأشجار من أغصانها
‏ثمّ تزداد اخضرارا واخضلال
 
‏لم يجد البردوني إجابة لأسئلته، فهل سيكون اليمني اليوم وبعد كل هذه المعاناة هو من سيجد لها الأجوبة:

‏إنما يا موت هل تدري متى
‏ترتخي فوق سرير من ملال
‏في حنايانا سؤال، ما له
‏من مجيب، وهو يغلي في اتصال
‏ولماذا ينطفئ أحبابنا قبل أن
‏يستنفد الزيت الذبال
‏ثمّ نسى الحزن بالحزن ومن
‏يا ضياع الردّ ـ ينسينا السؤال
 

حقوق النشر محفوظة "يمن شباب نت" ©2019 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر