صنعاء.. "وتعطلت لغة الكلام"..


نور ناجي

 
يحدث أن تفرغ منك القصص وتتبلد الحكايا. لا شيء يغضبك أو يسعدك. تتوقف روحك عن شغف الحياة والاستمتاع بتدفقها وحسب، دون أن تبدى لك أسبابها، لعلك تدركها في قرارتك، لكنك لا تريد كشفها لنفسك بوضعك الكثير من الأعذار؛ كالسأم أو رفض الواقع، فأنت مخلص لحالتك مهما كان مزاجها.
 
برغم مهادنتك لتلك الحالة، إلا أنها في واقع الأمر تنهكك، تجعلك تفقد جزء من هويتك. لذلك لا يجب عليك الاستسلام أو الانصياع لها، فأنت دون دورة الحياة التقليدية حولك، تحتاج لتعريف جديد وهوية غريبة عنك، وليس من اليسير العثور على بطائق شخصية في هذا الزمن ..
 
ستتفاجأ أن الخروج من هذه الحالة لا يحتاج- أحيانا- لمجهود كبير؛ مجرد وجوه جديدة؛ أو ربما رحلة قصيرة بين قصص الطرقات المزدحمة قد تعيد لك حيوية تدفقك.. أكدت ذلك لنفسي وأنا أخرج من المنزل..
 
أنه يوم السبت، الذي قرر الانقلابيون الغاؤه كإجازة بقرار مبكر ليكون يوم دوام رسمي. لم أعرف حتى اليوم أسباب ذلك القرار، وقيمته الحقيقية، أو الانجازات التي تمت بموجبه؟!
 
أشرت للباص الصغير الذي كان فارغاً وانتقيت مقعدا مريحا. اعتدت نسيان ما حولي سابقا في رحلاتي في الباص، إلا أني في مثل هذه الرحلة كنت بحاجة ملحة للبقاء متنبهة لاقتناص فرصة وصيد حكاية ما. كان النهار قد اقترب من الانتصاف، وتأكدت من ساعتي، بعد أن كاد الشارع ينجح في خداعي بهدوئه وقلة ازدحامه.. ربما لسنا في وقت الذروة فقط !!
 
كانت الباصات، كما أتذكر في سنوات دراستي الجامعية، لا تتوقف عن التنافس بينها في إدارة أحدث الأغاني، أو فتح الاذاعات التي حفظنا توقيت برامجها، إلا أن كاسيت الباص الذي يقلني كان صامتاً. لا بأس أن أختار السائق ذلك، ربما لا يعشق سماع الألحان، أو أن الكاسيت الباص معطل. لا داعي للتذمر، فمجرد عدم سماع الزوامل عدالة يجب أن تكون كافية بالنسبة لي..
 
كنت أبحث عن حكاية، لعلي أجدها في ملامح السائق الجانبية التي أحدثت الشمس فوضاها عليها بلا شفقة. وببرود، حرك المقود أمامي بيدين لطختهما آثار زيت المحركات، إلا أني لم أجد فيما أراه ثغرة تدل على قصة ما.
 ترى ما حكايته؟! ما زال في مقتبل العمر، لكن تصلب قسماته تقول إنه لا يفكر في شيء، ولا يريد ذلك. لعله كان أقرب لحالتي التي تركتها في المنزل !!
 
لا بأس سأعثر على ضالتي قريبا..
 
توقف الباص مع إشارة راكب جديد. لم يتذمر سائقو العربات حولنا، يبدو أن شوارع صنعاء الضيقة لم تعد تعاني هي الأخرى من الازدحام أو من ضيق الأفق. حوار قصير دار بين الراكب وسائق الباص بسبب الأجرة، صعد أثرها بعد أن اتفاقا على دفع نصفها.. هل خيب ذلك ظني؟! ربما كنت آمل في بذرة حكاية على غرار: "وثار السائق اخيرا"..
 
تركت سائق الباص، فلا فائدة تُرجى منه، واختلست النظر إلى الراكب الذي دلت هيئته على موظف حكومي تقليدي بثياب رثة أصبحت هي الصفة المميزة لغالبية موظفي الدولة، بعد توقفهم منذ أكثر من ثلاث سنوات عن قراءة رسالة نزول الراتب في حساباتهم البنكية. في هذا المشهد "حكاية"، قد تكون مثيرة في الظروف العادية، إلا أنها غدت بالنسبة لي ولغيري حكاية سمجة لا تثير المشاعر أو تحركها، فاعتياد المهانة واقتسامها بين شعب بأكمله يجعلك تفقد الشعور بها مع توالي الأيام..!!
 
لم يُطِل الباص السير، حتى توقف مرة أخرى. كانت هذه المرة سيدة تجاوزت الستين من عمرها. لم تحاول تخفيض الأجرة بل دخلت الباص بنظرة حازمة قبل أن يعترض أحدنا على "الشوالة" التي تحملها !! كنت أريد أن اطمئنها بأن لا معترض منا، إلا أني توقفت. يجب أن تأخذ الأحداث مجرياتها دون تدخل مني ..!!
 
أخذني الفضول لمعرفة ما تحوى تلك "الشوالة"، فسرقت لمسة خفيفة ميّزت عبرها الخبز الناشف. لابد وأنها تربي بضعة اغنام وليس الخبز سوى طعامها، متى ستتحدث عنها؟!..
 
طال الوقت دون جديد. لماذا لا تبادلني الكلام كما تفعل النساء عادة؟! قد يكون انتظار الحدث، إفراغ واضاعة له، قلت ذلك في نفسي وأنا أخالف قواعدي وألقي عليها التحية. شَعرتُ بالدماء تتدفق إلى رأسي ساخنة، حين أجاب الصمت تحيتي !! هل اعتبرت السيدة إشارة رأسها الخفيفة، والتي بالكاد لمحتها، ردً كافٍ عليّ؟!..
 
ما الذي حدث لسكان مدينتي؟! ما هذا الخرَس الذي ران على قلوبهم؟! ربما أخطأتُ ببحثي عما يحرك البركة الراكدة في وجوه تعطلت منها لغة الكلام !!..
 
كانت صنعاء، ومازالت، منبع لا ينبض، لذلك غادرت الباص الفاقد للحكايات سريعاً، وترجلت للسير على أرصفة المدينة. اشتقت لصنعاء، المدينة الجميلة التي مهما حاول الزمن إخراجها عن مسارها التاريخي تعود رغما عنه. حاولت السير أطول فترة ممكنة، لعل الوجوه ليست باردة غير مبالية كما توقعت، أنها أقرب لوجوه اعتادت على الكلام حتى لم يعد بإمكانها منحه..!!
 
ربما عجزت عن إيجاد إلّهام في وجوه ساكني صنعاء، لكنني كنت خبيرة في تقصي أخبار المدينة ومعرفة أحوالها. مازال نبضها، بالنسبة لي، هو المؤشر الحقيقي الذي أعتمد عليه. رفعتُ رأسي إلى الجبال المحيطة لخصر المدينة، والتي لم أعد اسمع ترانيمها الصباحية منذ فترة ليست بالقليلة. هل تغيرت صنعاء كما يقول البعض؟! ..
 
"معك حق الصبوح يا عمة"؟!، قاطعني ذلك الوجه الذي لم يتجاوز سنواته الخمس. من المفترض أن يؤلمني ذلك الطلب، إلا أن ذلك البريق المحتال الذي بدى في عينيه، جعلني ابتسم. قبَضتُ على كفه التي استسلمت لي وأنا أسأله مرافقتي بضع دقائق، ليحكي لي، خلال دقائق قصيرة، كيف سيصبح طبيبا بيطريا يعالج قطط الشوارع التي يعطيها جزء من طعامه كل يوم..
 
ما الذي توقعته حقاً من المدينة؟ لن تحبذ مدينة نفسها حين تكتظ بالفقر والحاجة والمهانة! لن تستقبل طالبي النسيان بالابتسامات والهزل! لن تكون سعيدة حين ترى توقف سكانها بفعل جماعي عن الكلام! ستصاب بخيبة أمل قاسية نتيجة خذلان فاق الأربعة أعوام من وعد بنصر لم يوفى..
 
ليست صنعاء أو ساكنيها كما يظنه البعض؛ وليس الصمت وتعطل البوح والشكوى تبلد وبرود؛ فهناك نبضات غاضبة قد لا نستشعرها على الوجوه، إلا أنها تصل عبر نبض الأرصفة والطرقات؛ غضب هادر، قد تكون مفارقة ابتسامة ذلك الصغير شعلة إيقاده، بعد أن استقت المدينة وقود الغضب، من ذلك السائق والموظف البائس والسيدة ومني؛ نبضٌ، يجعلني لا أخشى على صنعاء مهما طالت مدة الانقلاب الجاثم عليها..
 
ستعود صنعاء كما كانت، إن لم تكن عودتها للأفضل. فبعض المدن لا يمكن للحياة أن تعطيها ظهرها بسهولة..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر