حافلات الموت الجماعي


فكرية شحرة

 في منتصف الطريق إلى مأرب قررت الحافلة، التي تتمايل كهودج على سنام جمل كهل، أن تسترخي وسط الصحراء في وحشة الليل وحرارة الرمال الخانقة.
 
كان على الركاب المرهقين، الذين من ضمنهم أطفال صغار ورضع، أن يفترشوا الصحراء لثمان ساعات حتى يأتي المدد بحافلة أخرى من ذات نقطة انطلاقهم في عدن لتكمل بهم الطريق إلى مأرب.
 
كانت أقل معاناة بالنسبة لي أن قنينة الماء قد نفذت أثناء الطريق، وأن شدة الحرارة داخل الحافلة أو خارجها كانت تصيبني بظمأ شديد ..
 
كما أن فكرة وجود مكان لبيع الماء على مسافة هائلة لصحراء مترامية، تبدو أشبه بفكرة حفر بئر خلال تلك الساعات في الصحراء. 
 
هكذا ببساطة أعلن السائق، بعينيه الجاحظتين من طول السهر، أن حافلة الركاب تعطلت تماما، وبصعوبة أوقفها على جانب الطريق.
 
لطالما سمعت عن تلك الحبوب المنشطة، التي تساعد السائقين على السهر في الخطوط الطويلة؛ لكنني لم أسمع عن تفقد الحافلات وصيانتها بشكل دوري لتفادي مآسي الخراب وما يعقبه من حوادث أو تعطيل للركاب ورميهم على الطرقات بالساعات، في معاناة لا يشعر بعذابها إلا من خاضها فعلا.
 
في تسابق الحرص على اقتناص الركاب في مكاتب الاستقبال وانتزاع الأجرة الباهظة، يرتفع منسوب الترحاب إلى أقصى حالاته، ليهبط إلى الحضيض عند موعد الرحلة ويصبح الراكب لا يختلف عن حمولته من ثياب أو أغراض، فيعامل ككيس ملابس يرمى هنا أو هناك عند أقدام الركاب المزدحمين، خاصة في الرحلات إلى كوكب عدن المدهش والممنوع على أصحاب الشمال، وما أدراك من أصحاب الشمال؟
 
في الرحلات الداخلية بين مدن اليمن، صنعت شركات النقل الجماعي صيتا مروعا في ابتزاز الركاب، من حيث الأسعار، لما يفترض أنه نقل آمن ومريح. لكنه في بلدنا، المنكوب بمليون خطأ كارثي، أصبحت مركبات النقل حافلات للموت الجماعي بجدارة.
 
قبل أيام، حافلة كبيرة عائدة بمغتربين يحملون الشوق لذويهم وأحلام إجازة في ربوع الوطن.. إنما كانت حافلة الموت تحملهم أيضا ليقضوا نحبهم ويدفنوا في تراب الوطن.
 
تزايد مهول ومقلق لحوادث النقل الجماعي، وعشرات الضحايا قضوا نحبهم إثر أخطاء يمكن إصلاحها ببعض المسؤولية والضمير من قبل الشركات أو الدولة فيما يخص الطرقات.
 
الطرقات المحفرة، والحافلات المتهالكة، والاستهتار بأرواح الناس، أسبابا للقضاء والقدر، ولحزن أهالي مغتربين ومسافرين فقدتهم أسرهم.
 
لم نعد ندري من ماذا نصرخ وجعا في هذه البلاد التي انفتحت فيها أبواب الموت بلا حد أو حصر!!
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر