ليل الأمس أوقدنا الشعلة الثامنة لثورة فبراير، وصباحا  أحيينا الذكرى بحفل فني في نادي تعز، واليوم كان للثورة وقعها الخاص حين استعدنا ذكرياتها واحدةً تلو الأخرى في مشاهد حية مصحوبة بدموع الحنين للمسيرات الحاشدة والحشود الكبيرة وهتافات الثورة التي كانت ولا زالت تمدنا بالوقع الثوري إلى اليوم..
 
 إنها ثورة فبراير، الحدث الأنقى والأنصع في مسيرة الجمهورية اليمنية منذ الثورة الأم، ثورة السادس والعشرين من سبتمبر 1962.
 
وسط تداخلات سياسية جمة، وانعكاسا لحالة عسيرة تمر بها البلاد، بُعيد قرار صالح المستفز بالذهاب نحو انتخابات عامة من طرف واحد، إضافة إلى سلسلة من الانتهاكات بحق سياسيين وصحفيين مناوئين لسياسته، وكذلك التدهور الاقتصادي المريع المصحوب بقضايا فساد من العيار الثقيل... وسط هذا كله، وغيره الكثير والكثير، كان لابد من يوم أغر يقرر فيه اليمنيون وضع حدا لكل ما تمر به البلاد من تدهور وانهيارات على كافة الأصعدة..
 
 وهذا ما قرره الشباب حين اختاروا 11 فبراير يوما لإعلان تدشين المرحلة الثانية من عمر الجمهورية، مستفيدين بذلك من نجاح ثورة الياسمين التونسية، وتنازل حسني مبارك عن عرش مصر بعد ثلاثة عقود من حكمها. ففي كلا البلدين تصدّر الشباب واجهة الثورة، وهو ما فعله الشباب اليمني حين دشنوا ثورتهم بإحتفالات هستيرية، معبرين عن فرحتهم بنجاح ثورة 25 يناير المصرية، مدشنين بذلك ثورة عربية ثالثة في غضون شهر واحد. لقد حان للتغيير أن يشمل اليمن، تمامًا كتونس ومصر.
 
الكثير من المطالب الشعبية، المتمحورة في حقوق مكفولة لم تُمنح للشعب، كانت على رأس أسباب الثورة. وكل هذه المطالب التي تبنتها ثورة فبراير هي احتياجات أساسية، كان بمقدور نظام صالح أن يقوم بها من تلقاء نفسه دون الحاجة إلى ثورة تطالبه بالرحيل. ولكن ديدن الأنظمة الاستبدادية واحد، لا يختلف باختلاف الثقافة والجغرافيا. وهو ما انتهجه "صالح" حتى آخر رمق من عمره الرئاسي الذي شارف الثلاثة والثلاثين سنة، دون أن يكون هناك ما يدل على أنه فعل شيئًا يستحق بموجبه أن يستمر كل هذه الفترة.
 
نجحت الثورة بتدخل سياسي إقليمي في تحييد صالح وإرغامه على التنحي ليتحقق بذلك أول استحقاق ثوري مهم. بموجبه كان لا بد من التوجه الفوري نحو تحقيق كل ما تبنته الثورة حتى تكتمل بوتقتها في إظهار أحقيتها بكل ما هو قادم، استنادا إلى المرجعية الشعبية التي لها ما تريده ويجب تحقيقه.
 
اعتلى هادي سدّة الحكم في تمثيلية انتخابية منحته شرعية الرئاسة بعد استفتاء شعبي شارك فيه نحو ستة ملايين يمني، ضاربين بذلك عصفورين بحجر: تنصيب هادي؛ وتأكيد مسيرة ثورة فبراير التي تحمل في كنهها مهمة إنقاذية للبلد بعد عقود من التسلط والحكم المتقلب.
 
هناك استحقاق واحدٌ أُنجز بفعل الثورة، تمثل في إنهاء حقبة صالح. وكان لابد أن يكتمل بمحاكمته أو نفيه إلى خارج البلاد لضمان عدم تدخله في الشؤون الداخلية، وهو ما لم يكن، وما تسبب أيضا في تحالفه مع الحوثيين لقيادة الثورة المضادة التي كان على رأس مهامها تقويض ثورة فبراير، والنيل من شبابها، وإعادة اليمن إلى نقطة اللاعودة سياسيًا واقتصاديًا وعسكريا.
 
الاستحقاق الآخر للثورة، تمثل في مؤتمر الحوار الوطني. أحد أنصع الصفحات التاريخية اليمنية المُشرقة، وثاني أهم استحقاق ثوري بعد إسقاط صالح. ومع أنه هو الآخر اصطدم بمراكز القوى التقليدية على مستوى القبيلة والحزب، إلا أنه مضى قدما حتى مرحلة ما قبل التنفيذ. المرحلة التي وأدها صالح والحوثيون بانقلاب الحادي والعشرين من سبتمبر، بعد أن قطعت الفترة الانتقالية أشواطًا كبيرة في إطار هيكلة الجيش، وإعادة ترتيب المؤسسات الخدمية، وترميم الشركات الاقتصادية التابعة للدولة، النفطية والاستهلاكية، والمضي قُدمًا لصياغة دستور جديد ضامن لكل ما تم التوافق عليه في مخرجات الحوار الوطني، بما في ذلك شكل الدولة الاتحادية، وهو الاستحقاق الثالث لثورة فبراير، والذي لا يزال رهين الأحداث الجارية وما سيترتب عليها.
 
تبدو هذه الاستحقاقات جوهرية في عمر الثورة. ولو كتب لها أن تتم وتُستكمل، لتوجت نجاحا ثوريا منقطع النظير، مقارنة بالثورات الأخرى، في بلدان الربيع العربي..
 
 لكن الثورة المضادة، برأسيها صالح والحوثي، استفادت من كافة الاستثناءات التي أنتجتها النتوءات السياسية وصراع القوى التقليدية النافذة، حتى وصل الحال إلى انقلاب غير محسوب العواقب، أوقف كافة استحقاقات الثورة بشكل قسري، وعنّفها باعتقال قادة الرأي والصحفيين، وأعاد للواجهة عهد الملاحقة وتكميم الأفواه، وأغلاق مجال المشاركة أو الفعالية على كافة المستويات..
 
 جماعة واحدة تفرض ما تراه ملائما مع توجهاتها المذهبية والسلالية، ويعود على قادتها بالربح والنفوذ. حتى وإن كانت مشاركة في ثورة فبراير، والإطاحة- معية القوى الأخرى- بصالح، قبل أن تصبح شريكته لاحقا في وأد الثورة وإنهاء استحقاقاتها الضرورية لاستمرار حياة الجمهورية.
 
اليوم، تحتاج الثورة إلى إرادة شعبية تعيدها إلى مرحلة الفاعلية لاستكمال التحرير، وتصدر المشهد من جديد، كي يحصل الشعب على ما كان يأمله في ثورة فبراير، ويجدد إيمانه بها. ثورةً مكتملة لا نقصان فيها.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر