شهداء بلا جثامين


فكرية شحرة

 لقد قطع هذه المسافة الطويلة من أجلهما؛ من أجل صداقة عمدها أباهما بالدم والتضحية.
 
قطع مسافات "باعد بين أسفارنا"، من أجل طفلين لا يتذكرانه حتى! فآخر مرة رآهما، كانت فيها "رهف" مولودة صغيرة، و"رعد" لا يعي وجوه أصدقاء أبيه! كان ذلك قبل النزوح من صنعاء.
 
أتى من أجلهما .. وها هو خائف كثيرا من النظر في وجهيهما الصغيرين .. خائف أن يرى ملامح رفيق دربه وصديقه الأقرب، في طفليه .. خائف أن تجتاحه ذكرى تلك الأيام المضنية؛ حين ترك صديقه يواجه الاعتقال والموت تحت التعذيب، فيما آثر هو الهروب إلى مأرب.
 
في مدخل البيت الريفي المتواضع، وقف مع خال الطفلين ينتظرهما. فيما توارت زوجة صديقه بعد ترحيب قصير. أحنى رأسه احتراما لصوتها المتهدج وهي ترحب به. خاطبها بانكسار يرزح تحت عبء الحياة، بعد ذلك الصديق النادر.
 
لا شيء يمكنه أن يقال لزوجة معتقل، قُتل زوجها هرسا تحت أدوات التعذيب !!
 
والدة الطفلين معلمة؛ حين أوصلها زوجها إلى ريف تعز، بعد اجتياح صنعاء، وعاد من أجل عمله، آثرت أن تقوم بتدريس تلامذة القرية في عمل تطوعي منها. كانت بلا راتب وتشعر بفداحة الفراق والخوف على زوجها؛ رفض مناشداتها للبقاء في القرية، وآثر العودة إلى العاصمة، على أن يرتب للاستقرار في مدينة تعز ..
 
تباعد الحلم بمرور الشهور، وتبخر حين تم اعتقاله. شهور مضنية من الحزن والبحث عنه، تنتهي بخبر مقتله تحت التعذيب! آتى بالخبر شخص خرج من المعتقل، بعد أن حمل جثمان زوجها بين يديه وهو يحتضر.
 
كانت آخر كلماته وهو يوصي الرجل بطفليه. حتى جثمانه لا تدري أين هو؟ هل تم دفنه؟ هل رموه في العراء؟
 
تخاطب نفسها: لا يهم. سيظل ماثلا في خيالي وذاكرتي، كآخر مرة افترقنا فيها: متفائلا باللقاء بنا في أقرب وقت.
 
تواسي وحشتها: أن لا فائدة من رؤيته، وقد هشم التعذيب ملامحه، ومحى ابتسامته المتفائلة. فهذا سيدمر روحها أكثر.
 
لكنها رغما عنها، كأنها تنتظر عودته ..! كأنما سيأتي صديق آخر له، كما آتى السابق، ليقول لها إنه لم يقتل؛ وإنه حيّ، وسيعود لطفليه ولها، وسيبقى في تعز كما وعدها!!
 
غير مصدقة، أن ذلك الوداع المفعم بالتفاؤل، ينتهي بقتله تعذيبا على أيدي أقبح البشر!!
 
عندما أتصل صديقه الأقرب، يخبرها أنه سيزور الطفلين، بعث في صدرها كل أوجاع الشهور السابقة التي تكابدها، على أمل يائس: لم يكن زوجها ليفترق عن صديقه هذا..! ماذا لو كان معه كما كانا دائما ..؟!
إن أعظم الخيبات، ما كان على أمل ..
 
لقد قُتل زوجها بأقسى طرق الموت. لكن طفليه، يجب أن يعيشا حياة مستقرة، فلا يعدماها باليأس، كما عدما أباهما بالموت.
 
يجب أن تتجاوز فكرة: أن ترى جثمانه كي تقطع الأمل!! لطالما سمعت عن معتقلين يُقتلون تحت التعذيب ويُدفنون في أماكن مجهولة لمقابر جماعية، لا يُعرف أصحابها!! لكنها لم تكن تتخيل أن يكون زوجها أحد هؤلاء المقهورين ..!!
 
المقابر لا تُحفر إلا لهذا الشعب.. ليس في مناطق الحوثيين فقط.. سبق وعُثر على مقابر في عدن وفي تعز..
 
الطغاة في كل مكان. حتى وإن أخفوا جثث الضحايا، ستظل أرواحهم لعنة تطارد القتلة.. وستظل عذابات الأرامل والأيتام، أرواحا مفعمة بالانتقام.. كأنما كل روح هي أرواح مجتمعة.. روح القتيل وروح من بعده.
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر