ضحايا الحقيقة


سلمان الحميدي

رجلان وامرأة، ثلاثة دفعوا ثمن الكلمات، بينت مصائرهم وضعها في العالم، دفعوا الثمن باهظًا في الأيام القليلة الماضية، الوضع مرعب لمن يملك قلمًا ويحلم أن يكون صحفيًا أو ناشطًا يحوم حول الصحافة.
الأول: رجل يعول ثمانية أولاد، شعره أبيض، يعيش في صنعاء اليمنية حيث تسيطر مليشيا الانقلاب.
الثاني: رجل خمسيني، ترك بلده ليعيش متنقلًا بين المنافي الاختيارية، كان يخشى أن يقف "الرقيب على كتفه" فيملي عليه ما يكتب ويأمره بما يحذف، بلده السعودية واختفى في تركيا.
الثالثة: شقراء في بداية الثلاثينات، التقصي الدقيق للحقائق جعلتها ترتدي ـ خلف عينيها الجميلتين ـ نظارة بإطار أسود، كانت تعيش في بلدها، بلغاريا.
لا شيء يجمع الثلاثة غير رابط الكلمات وفداحة المصير.
الإلتقاء في تقاطع الرعب يبدو مرعبًا للعاملين في حقل الإعلام، حيث تصادف مقتطفات عن ثلاثة أحداث في يوم واحد دون أن ينتبه الآخرون.
 في اليمن الصورة واضحة، نتوسع عربيًا للسعودية، ثم نبلغ العالم بالنظر إلى بلغاريا حيث الاتحاد الأوروبي والعالم المتمدن.

الأول اسمه علي الشرعبي، ناشط نقي وموظف في الخدمة المدينة بصنعاء، يتلوى جوعًا حيث أن المليشيا تصرف نصف راتب كل ستة اشهر تقريبًا، يعرفه معظم الصحفيين لثقافته، اعتقلته مليشيا الحوثي، عذبته وأجبرته على الإدلاء بما أسمته اعترافًا بالتهمة الكبيرة، ألبسته البدلة الزرقاء وعرضت ما قاله على قناتها، قال علي بأنه كان ينوي الخروج، الأسبوع الفائت، في المظاهرات التي دعا لها بعض الناشطين تحت اسم "ثورة الجياع"، يهدف في هذا الخروج علاوة على الجوع، إلى "إنهاء الانقلاب وإعادة الشرعية" كان علي شجاعًا وهو يقول ذلك، وحفر الجوع عميقة في خديه، حسب الفيديو الذي عرض على قناة المسيرة التابعة للحوثيين، تم تقطيع المقطع ليظهر مرة أخرى متلبكًا وهو يتحدث عن اجتماعات مع أحزاب وتنسيق مع السعودية والإمارات لدعم المظاهرات، كان واضحًا لقد أرادوا إظهاره كعنصر خطير وخائن أكيد، لم يجتمع مع أحد ولم يتلق دعمًا ليمسك بطرف يافطة.
تاريخ الحوثيين أسود مع الصحافة، صحفي عُذّب حتى الموت، صحفيون احتجزتهم في مواقع عسكرية ليحولهم التحالف إلى أشلاء متفحمة بضرب الطيران، صحفيون يقضون العام الرابع في المعتقلات. في مناطق الشرعية يتعرض صحفيون لمضايقات إن أدلوا بحقائق كاملة تمس جانبًا من التحالف العربي.
لعلي الشرعبي مشروع في رأسه: ضد المليشيا، إنهاء الجنون المسلح، وقبل ذلك: ضد الجوع.


الثاني اسمه جمال خاشقجي، عمل كثيرًا في الصحف السعودية الرسمية، كان مقربًا من الأمراء والملوك، مؤخرًا شعر باحتجاز حريته، ترك بلده، ومازال يغرد: لنصحح لا لنعارض. رفع شعار "قل كلمتك.. وامشِ" غير أنه توقف عن الكلام وتوقف عن المشي فجأة، يكتب في الواشنطن بوست وعلاقاته واسعة ومتشعبة مع صحفيين كبار في العالم، هذا ما جعل من اختفائه الغامض قضية عالمية، إضافة للاستثمار الأمريكي لابتزاز المملكة، وحقائق مهمة وبشعة عن مصير الرجل، والأهم هو التكاتف الذي وحد الصحفيين نتيجة استشعار الخطر المحيق بحرية التعبير، لا تقترب من شخص مشهور يعد اسمًا من النخبة العالمية في الصحافة.
روايات مصيره تعددت: قتل، تم تقطيعه بمنشار.. مات بجرعة مخدر زائدة..
الرجل كان يعرف مصيره، دخل قنصلية بلده في إسطنبول، المؤكد أنه لم يخرج، والمؤسف أن الحقيقة الناصعة مرتبطة بظهوره سواءًا كان حيًا أو ميتًا.
كان خاشقجي ينوي أن يطلق مشروعًا، بحسب موقع ديلي بيست الأمريكي تحت اسم "الديمقراطية للعالم العربي الآن".

الثالث اسمها فيكتوريا مارينوفا، كانت تعمل في محطة تلفزيونية في بلغاريا، تلقت مصيرًا مأساويًا، اغتصب ثم قتلت، كان القاتل أريحيا ولم يحرم جثتها من التنزه، الذهن بحاجة إلى راحة والعاملون في مهنة المتاعب منهوكون في تقصي الحقائق، القاتل رمى بجثة فيكتوريا في حديقة بالقرب من نهر الدانوب، إلى الآن لم تظهر دوافع قتل فيكتوريا، أشارت المعلومات عن رويترز ومواقع أخرى، أن أول حلقة من برنامجها "الكاشف" كان في 30 سبتمبر، وقد تناولت تحقيقًا عن عمليات احتيال مفترضة لصناديق تابعة للاتحاد الأوروبي.
 كان برأسها مشروع: كشف النصابين، مختلسي الأموال.
تختلف دوافع تغييب الصحفيين وتضييعهم، غير أن التفكير بما يتعرضون له يضر الحقيقة؛ لكنه لا يحجبها، من يدخل هذا الحقل يحتاج لشجاعة الوقوف أمام أشرار العالم.
"لا تتحدث عن الجوع، يكفي صراخ أمعائك، لا تكتب عن الديمقراطية طمعًا بالتغيير، ولا تكشف النصابين وزعماء العصابات". تقول مصائر الإعلاميين هذا الأسبوع.
ملاحظة أخيرة:
هناك مبادئ وأخلاقيات يلتف حولها الإعلاميون في العالم، من بينها المسؤولية الإعلامية، كل من يدخل هذا الحقل حمل على عاتقه هذه المسؤولية ليدافع عن حرية التعبير، ليتضامن مع أي صحفي أو إعلامي يتعرض لأي ضيق أو أذى، حتى أولئك الذين تختلف معهم كثيرًا، لا تفرح لمصائرهم إن كانوا ضحايا، تضامن معهم، انتقد إن كان هناك ما يستحق النقد تاليًا. في مكان ما في العالم؛ قد يتعرض محرر لا تعرفه ولا تجيد لغته لظلم، إما أن تتضامن معه أو تسكت إذا لم تملك قدرة التضامن، التشفي بما يقع على الآخرين من أذى عمل لا إنساني ولا أخلاقي يتناقض مع شرف المهنة التي تكشف الظلم وترتكز على أولويتين: الإنسان والأخلاق!.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر