"البريء".. والإعلام


نور ناجي

 حمل كل من المخرج عاطف الطيب والكاتب وحيد حامد عدسة مكبرة، وهما يصنعان فيلم "البريء" للرائع احمد زكي. كان فيلما جريئا في عصرٍ لا أعتقد بأنه كان يملك مساحة كافية للقبول بمعارضة صريحة أو انتقاد مباشر للحكومة، أيً كانت تلك الحكومة؛ عدسة نقلت أدق تفاصيل تلك المرحلة، ليس في مصر وحدها، بل في معظم الدول العربية.
 
لعل من شاهد الفيلم، لم ينسى تفاصيل الحوار الذي دار بين المثقف، الذي يحاول الفرار من معتقله؛ والعسكري ذو النظرة الساذجة:
- المثقف: أنا مش عايز أذيك، انت حمار مش فاهم حاجة ..
_ العسكري: ها تروح مني فين، يا عدو الله والوطن، يا كلب ..
 
عدة مشاهد متلاحقة في الفيلم، جعلت من العسكري البسيط يتحول من مؤمن بالنظام، ويعمل بوفاء على حراسة إحدى سجونه، إلى معتقل جديد فيه، يرافق صديق طفولته المتهم بالتفكير الوقح. يرفع احمد زكي من صوت تفكيره متسائلاً بدهشة موجعة: "هم بيعملوا فيكم كده ليه ؟!"، ليرد عليه رفيق طفولته: "عشان احنا فهمنا يا سبع الليل"..
 
أخذت جميع الحكومات على عاتقها الكثير من العناء لتوجيه المواطن؛ تحديد ما يجب عليه التفكير فيه؛ طريقة عيشه؛ قبوله وتعاطيه مع المشاكل التي قد تصنعها، ليبقى دائما مشغول عن عملها، وبالتالي بعيد عن مساءلتها. وقد أظهر الفيلم اجادة تامة وممنهجة للحكومات في تغييب العقل واذعانه دون أن يداخله مجال بسيط في "الشك" الذي قد يؤول به لنهاية مؤسفة في السجون والمعتقلات..
 
منذ سنوات، لم تعد مهمة احتلال المساحة الصغيرة، الواقعة تحت عظام جمجمة المواطن، مقصورة على الحكومات؛ توزعت محاولات احتكارها عبر أطراف متعددة. وكان للإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي نصيب الأسد في توجيه المواطن الذي أصيب في بداية الأمر بصدمة تلقيه لمناقشات كانت محرمة في السابق بجرأة غير معهودة؛ فتحت له، مع مرور الوقت واستيعابه لتلك الصدمة، أبواب عالم جديد، ساعدته في تحرير القيود التي كانت مفروضة عليه.
 
انقاد المواطن لتلك القنوات، ومثقفيها، فترة لا بأس بها، قبل أن يتحول البعض منهم تدريجيًا إلى طغاة جدد، ويتقمصون رداء الديكتاتورية على من يخالفهم الرأي من متابعيهم بصورة عكسية لما كانوا يعانوا منه في فيلم البريء، دون أن يدركوا بأن احتكار الأفكار لم يعد بمثل ذلك الزخم، أو مقتصراً على بضع قنوات بعينها، لتشكيل وعي المواطن الذي أدرك أن الحياة ليست منقسمة بين أخيار واشرار فقط.
 
فمع انتشار القنوات الفضائية ومنصات التواصل والمنافسة الشديدة لاستقطاب العدد الأكبر من المشاهدين، امتلأت الساحة باتجاهات كثيرة، قد تكون شكلت في واقع الأمر محطات لتوقف المتلقي، الذي لم يعد تقليدياً كالسابق يسمع الخبر فيردده وهو واثق كل الثقة في نزاهته. فأمام الكم الهائل من المعلومات التي تصله امتلك القدرة على تحليلها، والمقارنة بينها وتحديد إن كانت إشاعة مغرضة أم حقيقة تحاول إظهار نفسها، حتى يعثر على ما يعتبره الأكثر مصداقية، أو المناسب لما يعتقده ويوافق هواه!!..
 
لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد؛ تغيرت شخوص الفيلم تدريجيا ليأخذ الرأي العام دور المستبد القوي ويفرض شروطه التي قد تكون قاسية، فجعل من بعض أصحاب الرأي منقادين لما تراه الجماهير ويدغدغ مشاعرها. يتحكم بهم كما يمسك بالريموت كنترول وهو يردد بكل برود: "إحنا خلاص فهمنا يا سبع الليل"..
 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر