الحديدة.. مسيرة الموت والنزوح


بشرى المقطري

تبرز مدينة الحديدة اليمنية فقيرة ومُفقرة، عنواناً لمأساة لا مثيل لها في تاريخ الحرب الحالية، وتاريخ الصراعات والحروب التي شهدها اليمن طوال تاريخه، إذ لا يمكن توصيف الجحيم الذي يعيشه أهالي المدينة جرّاء اشتداد المعارك، وانهيار مظاهر الحياة اليومية، أو نكبات من لم يجد طريقا آخر سوى النزوح، فيما يتجاهل أطراف الصراع اليمني وحلفاؤهم مسؤوليتهم المباشرة عن تدهور الأوضاع في المدينة، ووصولها إلى مستويات غير مسبوقة، متفقين، كما يبدو، على ترك أهالي الحديدة يختارون طرق موتهم.
 
خلافاً لمعظم المدن اليمنية التي تحولت بعض مناطقها إلى ساحة مواجهات مشتعلة بين المتصارعين وحلفائهم، تواجه الحديدة اليوم مصيراً أكثر مأساوية، إذ يؤكد خط سير المواجهات العسكرية بين المتقاتلين اقتراب المعارك من وسط المدينة، ما قد يزجّها (الحديدة) بكاملها في حرب شوارع، خصوصا مع تمترس مقاتلي الحوثي في المناطق السكنية، واشتباك القوات الموالية للتحالف العربي معهم، كما أن إصرار المتصارعين على تحويل الحديدة ورقة تفاوض، خصوصا بعد فشلهم في حسم المعركة على الأرض.
 
 يؤكد استطالة أمد الحرب، وبالتالي مضاعفة معاناة المواطنين، فإضافة إلى أنهم أهداف سهلة للقتل، جراء غارات التحالف وقذائف المليشيات، فضلا عن الألغام التي تحصد كل يوم مزيدا من أرواح المدنيين، فإن انهيار المظاهر الشحيحة للحياة يعد تحدّيا يوميا يهدّد حياة المدنيين، فقد توقفت الخدمات الضرورية التي كان يحصل عليها المواطنون بمشقّة، بما في ذلك توقف بعض مستشفيات المدينة عن العمل، كما يعاني الأهالي من أزمةٍ غذائيةٍ خانقة، جرّاء ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية، في مقابل عدم توفر مصادر دخل لدى المواطنين، بعد توقف معظم المصانع، كما فقد الصيادون مصدر دخلهم الوحيد، خشية أن يستهدفهم طيران التحالف، وبالتالي فرض انعدام حياة آمنة في مدينة الحديدة على الأهالي اتباع طريقين، كل منهما أمرّ من الآخر: البقاء في المدينة مجبرين، بسبب عدم قدرتهم على النزوح، لتردي أوضاعهم الاقتصادية، أو المجازفة بالانضمام لقوافل النازحين من المدينة في أكبر عملية نزوحٍ داخلي شهدتها اليمن منذ بدء الحرب.
 
أجبرت المعارك في تخوم مدينة الحديدة وأطرافها عشرات آلاف المدنيين المحاصرين على النزوح من المدينة ومديرياتها، ما جعل النزوح خياراً وحيداً أمامهم، وضاعف من أزمة النازحين أن المدينة ظلت موطناً للنازحين القادمين من حروب مدن الساحل الغربي وباب المندب طوال الحرب، ما يشكل ضغطاً مضاعفاً على المدنيين في المدينة، بسبب نقص المواد الغذائية، في حال ظل النازحون في الحديدة، أو البدء من جديد رحلة نزوح أخرى، إلا أن الأسوأ من مرارة تشرّد أهالي المدينة وشتاتهم، وعدم حصولهم على الحد الأدنى من ضرويات البقاء على قيد الحياة، أن معاناتهم أصبحت مصدرا لاسترزاق أطراف الصراع وحلفائهم والمنظمات الموالية لهم.
منذ بدء المواجهات العسكرية في مدينة الحديدة، تركت جماعة الحوثي أهالي المدينة لمصيرهم، ولم تتعاطَ بمسؤولية حيال معاناة أهالي المدينة، فمن منطلق أنها سلطة أمر واقع، كان عليها تأمين حياة المدنيين المحاصرين جرّاء المعارك داخل المدينة، وضمان استمرار قدر من الخدمات، تلبي احتياجياتهم اليومية، وكذلك إخلاء المدنيين المحاصرين في المديريات التي تحولت منطقة حرب شرسة، مثل مديريات التُحيتا والدريهمي وبيت الفقيه وقرب المطار، فضلاً عن توفير ممراتٍ آمنةٍ للراغبين بالنزوح من داخل المدينة إلى خارجها، وإنشاء مراكز إيواء لنازحي الحديدة في المدن الخاضعة لسيطرتها، إلا أن جماعة الحوثي لم تعمل بأبسط المعايير الإنسانية لمواجهة أزمة الأهالي الذين يدفعون ثمن مغامرتها.
 
فيما ركّزت جهودها على التحشيد العسكري لاستعادة المناطق التي خسرتها في المدينة، بما في ذلك حفر خنادق داخل الأحياء السكنية، ما عرّض حياة المدنيين للخطر، في حين استغلت أزمة النازحين بكل الطرق، إذ منعت مئات الأسر النازحة من الحديدة بمواصلة طريقها إلى المناطق المحرّرة، وأعادتها بالقوة إلى المناطق الخاضعة لها، وفرضت جبايةً على النازحين في مقابل السماح لهم بالعبور، بغرض بقاء النازحين في مناطقها، للحصول على دعم المنظمات والجهات المانحة، وكذلك لتوظيفها سياسياً في صراعها مع خصومها. وفي المقابل، تجاهلت السلطة الشرعية الأزمات الإنسانية في المدينة، جرّاء توسع القتال، وعدا حرصها على أن يظل إمداد المواد الإغاثية والمساعدات الإنسانية القادمة إلى مدينة الحديدة تحت إدارة مافيا الفساد التابعة لها، فإنها تصرّفت كما لم تكن معنيةً من قريب أو بعيد بمعاناة المدنيين.
 
تتفنن سلطات الحرب في اليمن وحلفاؤها في تعميم الخراب في المدن اليمنية، بغرض أن لا تنجو أي مدينةٍ يمنيةٍ من الدمار. وفي هذا السياق، تجاهلت العربية السعودية والإمارات تفاقم الأوضاع الإنسانية في مدينة الحديدة، وقللت من تحذيرات المنظمات الدولية من كلفة المعارك على المدنيين في الحديدة، والمدن الأخرى الخاضعة للمليشيات، وهم المدنيون الذين يعتمدون على ميناء الحديدة مصدرا وحيدا لوصول المساعدات الإغاثية، إذ سوقتا قدرتهما على مواجهة الأزمات الإنسانية المترتبة على الحرب في المدينة، على الرغم من فشلهما في تطبيع الحياة في مديريات الساحل الغربي المحرّرة، مثل مدينة المخا التي لا يزال معظم سكانها نازحين في مخيمات الشتات، على الرغم من تحريرها منذ أكثر من عام، فيما فاقمتا معاناة المدنيين، جرّاء قطعهما الطرقات الرئيسية التي يجتازها النازحون، الأمر الذي أجبرهم على اجتياز طرقٍ غير آمنة في محاولة للنجاة.
 
وفي سردية الرعب التي يعيشها أهالي الحديدة، لا شيء سوى الموت جوعاً أو النزوح، وفي مسيرة النزوح العظمى المفروضة على أهالي المدينة الأفقر في اليمن، يقطع نازحو الحديدة كل يوم مئات الكليومترات، مشياً على الأقدام أو عبر حافلات النقل، قاطعين طرق الموت التي تحصد أرواحهم بالالغام والغارات والقذائف، وما ينتظرهم في الشتات الحزين ليس أقل سوءًا من بقائهم في قيظ الحديدة وجوعها، ففي مدينة إب الخاضعة للمليشيات، نام نازحو الحديدة أمام أنظار العالم في أرصفة الشوارع الرئيسية، ونام نازحون آخرون في عراء صنعاء، بلا مأوى ولا غذاء، فيما نفضت سلطات الحرب أيديها عن نكبتهم، وعدا مبادراتٍ مجتمعيةٍ فردية لإيواء نازحي الحديدة، وحفظ ما أمكن من كرامتهم الإنسانية المسفوحة، فإنهم لم يجدوا في نزوحهم سوى المرارة والخيبة والقهر وويلات شتاتٍ لا يعرفها إلا من ترك بيته هرباً من الموت، فيما تواطأ العالم بأكمله على مباركة التنكيل الذي تتعرّض له مدينة السلام والعلم.
 
*العربي الجديد

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر