لأسباب كثيرة ينظر التحالف إلى مدينة الحًديِّدة، بوصفها هدفا استراتيجيا، ولا مجال لأي عملية سلام تبقيها تحت سيطرة الحوثيين، أو رفع هذه السيطرة جزئيا أو شكليا؛ وذلك لما تمثله من قيمة متنوعة الثقل في ميزان هذه الحرب، وللمعاناة الكبيرة، التي يقاسيها السعوديون جراء تعرض مدنهم للصواريخ الباليستية، التي تتسلل عبر ميناء الحديدة. وعليه سيظل الخيار العسكري قائماً، أو على أقل احتمال، مؤجلا، استجابة للضغوط الدولية، ولعل مؤشر ذلك، توقف تقدم القوات عند الطرف الجنوبي للمدينة منذ 20 يونيو/ حزيران الجاري 2018.
 
أجندات متناقضة لدى مختلف الأطراف، وجميعها يقوم على ما تمثله مدينة الحديدة من أهمية استراتيجية بالنسبة له؛ حيث تضم ميناء بحريا حديثا يعد أحد أهم الموانئ الاستراتيجية الواقعة على أهم طريق بحري لتدفق الطاقة، وهو البحر الأحمر، رغم ما يعانيه الميناء من تحديات تشغيلية؛ جراء تداعيات الحرب والحصار، وما لحق به، مؤخرا، من أضرار؛ جراء مصادرة الحوثيين بعض معداته، فضلا عن مينائين بحريين آخرين، ومطار إقليمي مترامي الأطراف.
 
إماراتيا، يساق ميناء الحديدة بكل ذريعة ممكنة إلى مصير ميناء عدن المصاب بالشلل العمدي، وما بعد ذلك من الاستغلال الجائر والممنهج، على نحو ميناء بربرة الصومالي، وفقاً لما تتمتع به الإمارات من نفوذ، بوصفها صاحبة القرار الأول في إدارة وتمويل معركة الساحل، وليشكل الميناء مع جزيرة بريم (ميون)، وميناء عدن، ثلاثية لوجستية ذات أهمية كبيرة في صناعة النقل البحري، الذي تنشط فيه مؤسسة موانئ دبي، وتحول هذه الثلاثية إلى رهن استثماري طويل الأجل مقابل استيفاء القيمة الضخمة لفاتورة الحرب.
 
النظرة السعودية تجاه ميناء الحديدة، مرتبطة، حاليا، بتهريب الصواريخ الباليستية والأسلحة الأخرى، التي يمطر بها الحوثيون مدنها منذ ثلاثة أعوام، بمؤازة ودعم من إيران وحزب الله اللبناني. أما مستقبلا، فلا يفرق ذلك عن الأجندة الإماراتية، مع توجس السعودية تجاه أمنها الوطني، الذي يتعرض للتهديد الإيراني من خلال محيطها البحري، شرقا وغربا، فضلا عن التطلع السياسي والاقتصادي والتجاري لولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وتجلي ذلك في مشروع مدينة "نيوم"، الذي لن يكون ميناء الحديدة بمعزل عن تفاعلاته المختلفة، كشأن موانئ سعودية، ومصرية، وأردنية، واقعة على البحر الأحمر.
 
في المقابل، وضع الحوثيون أنفسهم في موقف صعب للغاية، حينما رفضوا، مبكرا، مقترح مبعوث الأمم المتحدة السابق، اسماعيل ولد الشيخ، الذي قدمه عام 2017، ولم يتمكنوا، في ذات الوقت، من التصدي للقوات المشتركة المدعومة إماراتيا، ووقف تقدمها على طول الشريط الساحلي الغربي، ابتداء من باب المندب، ووصولا إلى محيط مطار الحديدة، لكن إحساسهم بدنو الخطر، وما ستخلفه خسارتهم للميناء، جعلهم يتخلون عن رفضهم إشراف الأمم المتحدة على الميناء، إلا أن ذلك جاء متأخرا؛ وبالتالي سيضع التحالف شروطا إضافية، وفقا للتحولات الناشئة.
 
بصيص الأمل لدى الحوثيين، يمثله المبعوث الأممي الجديد، مارتن غريفت، الذي يحظى بتقديرهم، وسعيه لتحقيق نقطة إيجابية في تحقيق السلام، وتهويل الحوثيين من تداعيات الحسم العسكري، واحتمائهم بالمدنيين، وتخندقهم وسط الأحياء السكنية، بما يوحي، مسبقا، بكارثية الحسم العسكري، لكن هذا المسلك لن يخدمهم بشكل فعال، فقد تطول المعركة قليلا، لكنها لن تحقق لهم النصر، بناء على معطيات الواقع، سواء من حيث فارق القوة، أو طبيعة الأرض، أو ظروف الطقس السيء، أو هشاشة السند الشعبي المتباين معهم فكرا وهوية، وقد تسحب المعركة إلى خارج المدنية، والاكتفاء بمحاصرتها والسيطرة عليها تدريجيا.
 
أما السلطة الشرعية، فلا وجود لها، عسكريا، في مشهد ما يجري في هذه الجبهة، وإذا كان هنالك من وجود فهو شكلي، ولا يتعدى قيام الرئيس هادي بمهاتفة بعض قادتها العسكريين، رغم ما توفره سلطته من غطاء سياسي معترف به دوليا لنشاط القوات في هذه الجبهة وغيرها. مع ذلك، ثمة إشارات دالة على وقوع تفاهمات بهذا الشأن، بين الرئيس هادي وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، خلال الزيارة، التي قام بها إلى أبوظبي أواسط يونيو/ حزيران الجاري 2018، كانت أبرز محاورها التوافق على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى المنضوية تحت سلطته، بما يتيح لحزب المؤتمر الشعبي، عبر جناحه المدعوم إماراتيا، الاضطلاع بدور عسكري في هذه الجبهة وامتدادها باتجاه العاصمة صنعاء، في مقابل تمكينه من العودة إلى عدن، وممارسة صلاحياته في حدود معينة.
 
الواضح في المشهد الآن، أن التحالف ومعه السلطة الشرعية من جهة، والحوثيين وحلفائهم من جهة أخرى، يدركون قيمة مدينة الحديدة وما تشكله من ثقل متنوع في ميزان الطرف، الذي سيظفر بها، وأن الاستراتيجية الأنسب لإدارة المعركة، بشقيها الدبلوماسي والعسكري، هي "استراتيجية الحرب الدبلوماسية" أو "التفاوض مع التقدم الميداني"، وتتجلى صورة ذلك، بوضوح، لدى طرف التحالف، فيما يناور الحوثيون سياسيا مع تشبثهم المستميت بالأرض، ومحاولة إحداث اختراقات في المناطق، التي خسروها، لكن قدراتهم العسكرية أمام تفوق التحالف، لن تمكنهم من تحقيق المزيد من ذلك.
 
ما يثير فضول الكثير من المتابعين لمعركة الحديدة، توقف أو تراجع نشاط قوات الجيش في الجبهات الأخرى، مع ما يشكله ذلك من ضغط على الحوثيين وإضعاف الدفاعي، سواء في هذه الجبهات أو في جبهة الحديدة، وليس أدل على ذلك الانكسارات الأخيرة للحوثيين في مديرية نَعمان بمحافظة البيضاء؛ ذلك أن أغلب المقاتلين الحوثيين يجري الدفع بهم إلى الحديدة، لجسر الفجوات الكبيرة، التي سببها مقتل المئات من مقاتليهم السابقين، خلال الشهرين الماضيين.
 
إن موقف التحالف المفرط في الخصومة تجاه بعض القوى السياسية المكونة للسلطة الشرعية، ومحاولة تهميش دورها السياسي واستحقاقاتها، التي ضحت في سبيلها طيلة الثلاث السنوات الماضية، هو ما يحول دون تحريك هذه الجبهات على نطاق واسع، وإذا كان هنالك من نية للتحالف للقيام بذلك، فلن يكون إلا وفق ما يراه؛ ولذلك قد تطول الحرب، ويطول معها معركة السيطرة على الحديدة، وهكذا بقية المدن، وربما يصبح الحديث عن تحرير صنعاء ضربا من الأماني.
 

*المقال خاص بـ "يمن شباب نت"

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر