في الوقت الذي أصدرت فيه محكمة إماراتية حكما بسجن الناشط الحقوقي أحمد منصور عشر سنوات، بسبب تغريدات له على تويتر انتقد فيها السلطات، أصدرت محكمة سعودية حكما آخر بالسجن خمس سنوات على الكاتب محمد الحضيف، بسبب تغريدات انتقد فيها دولة الإمارات، وهذان الموقفان يؤكدان استمرار الانحطاط العربي الرسمي فيما يتعلق بملف الحريات، كما أنهما يشكلان امتدادا لحوادث مماثلة في السنوات الماضية.
 
من الحوادث التي لاتزال عالقة في الذاكرة، ما حدث عام2005، عندما اعتقلت السلطات السعودية الداعية الإسلامي الشيخ خالد الراشد وزجت به في ظلمات السجن، بسبب دفاعه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ضد الرسوم المسيئة التي نشرتها صحف دنماركية في ذلك الوقت، ودعوته لإغلاق سفارة الدنمارك.
 
كانت السلطات تدرك جيدا أن الراشد يغرد خارج سربها، ولابد من دفعه لثمن الكلمة، فلفقت له تهم تتعلق بالإرهاب، حتى تبرر اعتقاله، وتغييبه لسنوات طويلة، ولم تكن الحادثة سوى تعبيرا حقيقيا عن عقوبة من رفضوا الصيام عن الكلام، وأفطروا بانتقاد السلطات أو ما يخالف هواها، فنالوا العقوبة!
 
عندما تقوم الأنظمة العربية بكل قواها العسكرية، لمحاربة الكلمة الصادقة المعبرة، فهذا يعكس بالتأكيد ضعف هذه الأنظمة أمام قوة الكلمة، فتضطر لإجبار أصحابها على الصيام عن الكلام، حتى لا ينطقوا بما يخالف أهواء السلطات، فتفسد عليهم دنياهم، وتسومهم العذاب في السجون والمعتقلات.
 
في السنوات التي تلت الثورات العربية، وما رافقها من تقدم ملحوظ في منسوب الحريات، شعرت الأنظمة السلطوية بخطر هذا الأمر، وبادرت لتأسيس وتمويل الثورات المضادة، حتى لاتصل رياح التغيير إليها، بل وضاعفت من التضييق على الحريات المتاحة، وكان من نتاج هذا التحرك أن تسلمت زمام الحكم في بلدان الثورات العربية، أنظمة عسكرية انقلابية، تعادي كل من يعارضها أو يختلف معها، وسنّت القوانين بما يسمح لها بإطلاق قبضتها الأمنية لتطويق الأنفاس، ومنع الكلام عن الواقع المعاش، بدعوى الحفاظ على الأمن القومي!
 
في السعودية مثلا، تعرض عشرات الدعاة والمفكرين للاعتقال والإخفاء القسري، بسبب مواقفهم التي لا تتوافق مع أهواء السلطة، وبعضهم سُجن بسبب التغريد على تويتر والتعبير عن رأيه كما حدث مع الشيخ سلمان العودة، ومن قبله الشيخ عبد العزيز الطريفي، بينما تماشى آخرون مع السلطة في الصيام عن الكلام، وتجنبوا الحديث في السياسة، وتحمس بعضهم لإثبات الولاء للطغمة الحاكمة، ومارس التطبيل بشكل مهين.
 
الأنظمة العربية بشكل عام، لا تمنح مساحة للاختلاف معها، ومن يخوض في موقف أو يتحدث بكلام لا يتفق مع التوجه السلطوي، يجد سيف السلطة منتصبا في طريقه، ففي الكويت مثلا، وهي الدولة الأكثر احتراما للحريات بين دول الخليج، تعرض العشرات من السياسيين والصحفيين للتجريد من الجنسية الكويتية عام 2015، بسبب مواقف سياسية معارضة للسلطات، وهو قرار ظالم ومخالف للحقوق الإنسانية، لكنه يبدو رحيما عند مقارنته بالقرارات التي تتخذ في دول مجاورة، كالإمارات، التي تمارس سلطاتها الاعتقال والإخفاء بحق النشطاء والمغردين، تحت مبررات فضفاضة وعريضة تتعلق بالأمن القومي، كاعتقالها لعدد من النشطاء والحقوقيين عام2011، لمجرد مطالبتهم بإصلاحات تتعلق بالمجلس الوطني الاتحادي وتعزيز صلاحياته، مع أنهم أكدوا في ورقة مطالبهم الولاء للسلطات!!
 
في بلدان الثورات العربية، التي ترزح تحت وطأة الانقلابات والفوضى، تراجعت الحقوق والحريات بشكل كبير، وأصبح الصيام عن الكلام واجبا لمن يرغب بحياة مقيّدة ومكبلة، يستطيع فيها أن ينجو من البطش والاعتقال، لكنه لن ينجو من المهانة والإذلال.
 
مطلع أبريل الماضي، أطلقت ميليشيا الحوثي سراح الناشط جمال المعمري، بعد ثلاث سنوات من تعذيب مروع أفقده القدرة على الحركة، وسبب له متاعب جسيمة، والغريب بعد كل هذا العذاب، هو ما طلبه الحوثيون منه أثناء الإفراج عنه، طلبوا منه الصيام عن الكلام، وتجنب الحديث عما تعرض له من وحشية وسادية في سجونهم، وهذا يكشف مدى القبح والمرارة التي تعصف باليمن، كيف أن السجان يتفاخر ويتفنن بالتعذيب، ويخشى في نفس الوقت أن ينطق الضحايا ويتحدثوا بكلمة عما تعرضوا له؟
 
في سوريا، بدأت الثورة بقصة تعذيب، تعود تفاصيلها إلى أواخر فبراير 2011، عندما اعتقلت أجهزة الأمن عدد من أطفال درعا، بسبب كتابات لهم على الجدران تدعو لإسقاط النظام، ومارست بحقهم أصنافا من التعذيب، بينها قلع الأظافر، وهي أساليب روتينية يستعملها النظام في سجونه الرهيبة، التي تحمل في ثناياها قصص تفوق الخيال في الرعب والتعذيب، لمن يختلفون مع توجهات السيّد الرئيس!
 
لا تختلف أساليب الكبت وتكميم الأفواه التي يمارسها الحوثيون في اليمن عن تلك التي يمارسها نظام "الحيوان" في سوريا، ونظام السيسي في مصر، وعصابة حفتر في ليبيا، جميع هذه الممارسات القمعية تلتقي عند نقطة مشتركة، وهي حفظ الأمن القومي، والسلم الداخلي، المتمثل في نظام الحكم، ولو على حساب ملايين الضحايا والمعذبين.
 
"الشعب يريد إسقاط النظام" عبارة من أربع كلمات، وعشرين حرفا، ثمن ترديدها كان باهظا جدا، دفعته الشعوب العربية ولاتزال. عشرون حرفا فقط، أقضت مضاجع الأنظمة المستبدة، فقتلت واعتقلت مئات الآلاف، وشردت الملايين، ممن هتفوا بها، أو ممن تعتقد الأنظمة، أنهم يهتفون بها ولو همسا، ما أصعب الكلام عندما يتحول إلى أنهار من الدماء، ومدائن من الخراب.
 
عندما تتراجع الحريات، يتزايد عدد السجون، ومعهما الإجراءات والتشريعات التي تقنن استباحة القانون وإهدار الكرامة، وإخراس الألسن، يحدث هذا يوميا في البلاد العربية، البلاد التي غربت فيها شمس الحرية، ولم تشرق بعد!
 
نحتاج اليوم لأن نرفع أصواتنا بالصراخ، والرفض للتضييق على الحريات، لدينا فيسبوك وتويتر وهما أقوى من كل أجهزتهم القمعية، الأمنية والمخابراتية، فزمن الصوت الواحد ولى، ولم يعد بالإمكان الانزواء والصمت، وترك الكلمات مكسورة الجناح محشورة في زنزانة المنع والتضييق.

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر