اليمن..مسارات ومترتبات العودة إلى الخيار العسكري كحل أخير (تحليل خاص)

ما إن رُفِعَت طاولة المفاوضات السياسية بنسختها الثالثة الفاشلة، حتى اعادت الحرب أوزارها مجددا على الأرض في مختلف الجبهات الساخنة في اليمن، على نحو تقول المؤشرات الأولية أنها قد تكون أكثر عنفا من قبل.

ومع أن أخبار جبهة نهم- صنعاء (شرق العاصمة اليمنية) سيطرت على المشهد العسكري بمعارك أكثر سخونة، تليها تعز (وسط اليمن)، إلا أن عودة طيران التحالف للمشاركة الفاعلة بقصف مكثف لمواقع ومخازن الميليشيات في عدة محافظات، نالت العاصمة النصيب الأوفر منها، كان هو المؤشر الأبرز على عودة الخيار العسكري بعد توقف شبه كلي لأكثر من ثلاثة أشهر، مع بعض الخروقات الطفيفة.

منذ منتصف أبريل/نيسان الماضي، توقف طيران التحالف العربي، الذي تقوده المملكة السعودية في اليمن منذ أواخر مارس/أذآر 2015، من المشاركة في المعارك الداخلية، التي كانت هي الأخرى شهدت تراجعا كبيرا، إلا من بعض المناوشات البسيطة وخصوصا في تعز، البيضاء، الضالع والجوف، فيما كانت جبهة نهم/صنعاء - وهي الأكثر أهمية لدى التحالف والمجتمع الدولي - شهدت توقفا شبه كليا، إلا من إضفاء بعض التجهيزات التسليحية من الطرفين استعدادا للأسوأ المتوقع سلفا.

،،

بعد أكثر من عام ونيف خفتت المعارك لمصلحة الخيار السياسي..وبعد أكثر من مائة يوم من مشاورات الكويت تعمقت الفجوة أكثر، بل تجاوزت هذه المرة الداخل اليمني نحو المجتمع الدولي

 ،، 

توقف اضطراري للخيار السياسي

جاء هذا التراجع العسكري، بعد عام ونيف من القتال العنيف، لمصلحة إتاحة المجال مجددا للخيار السياسي بطلب من الأمم المتحدة الراعية والميسرة للمشاورات اليمنية في جولتها الثالثة التي انعقدت بدولة الكويت، وساندها في ذلك ضغوطات من سفراء دول مجموعة الـ18 الراعية والمشرفة على حل الأزمة اليمنية.   

وقد شهد المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن على الهدوء الذي نعمت به البلاد، وخصوصا العاصمة صنعاء بفعل التزام التحالف بإيقاف الأعمال القتالية. حيث اشار إسماعيل ولد الشيخ أحمد، خلال مؤتمره الصحفي بالكويت، 6 أغسطس/آب، الذي أعلن فيه رفع المشاورات إلى أجل غير مسمى، إلى أنه لمس ذلك من خلال زياراته الأخيرة إلى العاصمة اليمنية صنعاء خلال الأشهر الماضية، مؤكدا أن هذه الحقيقة ليست من عنده وإنما عبر استطلاعه لأرآء بعض السياسيين والمواطنين العاديين، وجميعهم أكدوا له حالة الاستقرار والأمان الذي تشهده العاصمة بفعل توقف القصف الجوي.

أكثر من مائة يوم خاضتها الأطراف اليمنية في مشاورات الكويت، لم تزد أكثر من تأكيد عمق الخلافات بين الطرفين: الحكومة الشرعية ومعها الأحزاب والقوى الرئيسية في البلاد والمؤيدة للشرعية من جهة، والميليشيات المنقلبة على السلطة، ممثلة بجماعة الحوثي المتمردة وحزب المؤتمر الشعبي، جناح الرئيس المخلوع علي صالح من جهة أخرى.

خروج روسيا عن الإجماع

ومع أن هذه الجولة شهدت أكبر فترة مفاوضات في العالم، تحدث على نفس واحد متواصل، حيث لم يتخللها سوى انقطاع لمرة واحدة أستمر لمدة أسبوعين خلال إجازة عيد الفطر فقط، إلا أنها ليس فقط لم تنجح في إحداث أي اختراق للخلافات العميقة، كما كان يؤمل ويعد به المبعوث الأممي، بل أكثر من ذلك أنها أحدثت انقساما واضحا وخلافات حادة – لم تكن موجودة سابقا - بين الدول العظمى دائمة العضوية بمجلس الأمن الدولي، حين شذت روسيا عن الإجماع الدولي في الملف اليمني، الأمر الذي يحدث لأول مرة على مدى نصف العقد الماضي، منذ اندلاع الثورة الشعبية اليمنية في فبراير/شباط 2011، وما تلاها من تطورات وصولا إلى الانقلاب على السلطة مطلع العام الماضي (2015) وما نجم عن ذلك من نشوب للأزمة والحرب الداخلية وتدخل التحالف العربي.

لكن هذا الموقف تغير مؤخرا، وخلال أقل من شهر واحد فقط (يوليو/تموز الماضي)، أحبط مندوب روسيا بمجلس الأمن بيانين حول اليمن، قدمتهما المملكة المتحدة، الأول عبارة عن مسودة بيان كان يفترض أن يصدر عن رئاسة المجلس ويعيد تجديد توضيح طبيعة الأزمة ويحدد أولويات التفاوض المختلف حولها، والثاني عبارة عن مسودة بيان صحفي يدين الخطوة التصعيدية التي أتخذها طرف الانقلابين مؤخرا بإعلانه، أواخر يوليو/تموز الماضي، تشكيل مجلس سياسي أعلى لإدارة البلاد، فيما كانت مشاورات الكويت ما تزال قائمة ولما تنتهي بعد. ما أعتبره المجتمع الدولي – عدى روسيا - تصعيدا من طرف واحد يتعارض مع قرارات مجلس الأمن الدولي، خصوصا القرار الأخير (2216) لسنة (2015)، الذي يمنع ويحذر من اتخاذ أية إجراءات تصعيدية أو استفزازية أو قرارات أحادية الجانب.           

إرهاصات ما قبل العودة العسكرية

طوال فترة المشاورات، كانت الخلافات تتعمق أكثر حول ايهما يتوجب البدء به أولا لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي (2216). يطالب الإنقلابيون أولا بتشكيل حكومة توافقية، قبل الانسحاب من المدن الرئيسية التي سيطروا عليها، أو تسليم السلاح المنهوب للدولة، أو إطلاق سراح المختطفين السياسيين والمدنيين لديهم. فيما يشدد جانب الحكومة الشرعية على ضرورة المضي في التنفيذ وفقا للتراتبية الواردة ضمن القرار الدولي بالنص، وهي تراتبية تتجه إجباريا عكس إرادة الانقلابين. أضف إلى ذلك أن هؤلاء يشترطون إزالة العقوبات الدولية المفروضة على زعمائهم (المخلوع صالح ونجله وخمسة من قيادات الحوثي، بينهم زعيم الجماعة عبدالملك الحوثي)، بموجب القرار الدولي رقم (2140) لسنة (2014)، القرار الذي أدخل اليمن تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، الذي يوجب التدخل الدولي ضد المعرقلين.

،،

مع بروز أولى مؤشرات الانسداد السياسي، باشر الانقلابيون بمهاجمة الحدود السعودية وإطلاق الصواريخ، والتزمت الأخيرة ضبط النفس، وأقتصرت على إعلان عدد قتلاها، في سلوك فسر أنه يمهد لتبرير العودة للخيار العسكري لاحقا بعد تعرية الميليشيات أمام المجتمعين المحلي والدولي

  ،،

 منذ البداية، بل قبل أن تنطلق، نظر كثير من المراقبين إلى مشاورات الكويت على أنها ليست سوى مناورة جديدة من الميليشيات الانقلابية الهدف منها كالعادة – كما حدث في المفاوضات السابقة (جنيف1، جنيف2) – الحصول على وقت مستقطع لإعادة تنظيم صفوفها وتعويض خسائرها السابقة، بما في ذلك السلاح الثقيل الذي استنزف جراء الحرب والقصف الجوي لطيران التحالف. لذلك وجدناهم يصرون على عدم العودة إلى الحوار قبل وقف الضربات الجوية، وهو ما تم لهم بفعل الضغوطات الأممية والدولية، كما أسلفنا.  

ومع المؤشرات الأولى بوصول مباحثات الكويت إلى طريق مسدود، وتحديدا عقب رفعها لقضاء إجازة عيد الفطر، عاودت ميليشيات الحوثي والمخلوع هجماتها على الحدود السعودية، كما استخدمت صواريخ بالستية لقصف العمق السعودي.

وفي حين كانت السعودية تتمكن من صد الهجمات الصاروخية بسهولة وتدمر الصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها عبر منظومتها الصاروخية الحديثة للرد الألي، لوحظ أنها كانت – وعلى خلاف العادة - تتعمد الإعلان تباعا عن عدد ضباطها وجنودها الذين قتلوا أو جرحوا جراء محاولات اقتحام حدودها الجنوبية، مع التزامها بضبط النفس حيث لوحظ عدم قيامها بتحريك طيرانها أو طيران التحالف لمعاودة قصف المواقع التابعة للانقلابين في اليمن، فيما عدى استخدام طائرات الأباتشي لضرب المهاجمين على حدودها، وبعض الطلعات المحددة لطائرات حربية،   ظلت تؤكد أنها لا تستهدف سوى قصف المنصات التي تنطلق منها الصواريخ إلى أراضيها.

وفي السياق ذاته، شهدنا لأول مرة، السفير السعودي لدى الأمم المتحدة يتحدث عن مقتل عدد كبير من المواطنين السعوديين في البلدات الحدودية جراء القصف المدفعي للميليشيات على الأراض السعودية. فخلال جلسة لمجلس الأمن الدولي في 2 أغسطس/أب، قال السفير السعودي عبدالله المعلمي إن "ميليشيا الحوثي قامت بأكثر من 1700 خرق للحدود السعودية، وقتلت حوالي 500 مدني في المملكة".

كما أنه، وخلال كل تلك الإرهاصات، كانت تصريحات الدبلوماسيين والعسكريين في التحالف والسعودية على السواء، تؤكد على أهمية التمسك بالخيار السياسي لحل الأزمة اليمنية، وعلى دعمها القوي للمبعوث الأممي ومشاورات الكويت.

عودة الخيار العسكري

يبدو أن التحالف والسعودية أرادا من خلال انتهاج تلك الخطوات السياسية والدبلوماسية الهادئة واللاتصعيدية، إقامة الحجة الكاملة على الميليشيات الانقلابية في طريق تعريتها أمام المجتمعين الدولي والمحلي (سواء في اليمن أم دول الخليج نفسها) على المسارين السياسي والعسكري. الأول عبر اعاقتها للمشاورات وتصعيداتها السياسية اللاحقة بتشكيل مجلسها السياسي الأعلى بشكل انفرادي واستفزازي بالمخالفة للقرارات الدولية والمبادرة الخليجية ومخرجات الحوار الوطني والدستور اليمني؛ والأخر (المسار العسكري) عبر كشف تصرفاتها التصعيدية وانتهاكاتها للاتفاقات، سواء الثنائية مع المملكة بشأن وقف العمليات على الحدود، أم الدولية مع المجتمع الدولي بشأن وقف كافة الأعمال القتالية.

وبعد أن اتم التحالف مضيه قدما، خطوة بخطوة، مع إرادة المجتمع الدولي، جاء التصعيد السياسي، بتشكيل الانقلابين للمجلس الأعلى، مع ما أعقبه وأفضى إليه ذلك من إعلان المبعوث الأممي إلى اليمن من رفع للمشاورات السياسية إلى أجل مسمى، بمثابة الضوء الأخضر للتحالف العربي بقيادة السعودية لمعاودة اللجوء للخيار العسكري كخيار لا مفر منه. وعلى هذا النحو ربما تبدو الأمور حاليا بالنسبة للكثيرين.

بل زاد من التطمين، أن عادت الخارجية الروسية وعدلت موقفها الأخير الذي شذ عن موقف أعضاء مجلس الأمن الدولي، حيث أصدرت خارجيتها بيانا جديدا، في 8 أغسطس/آب، أي قبل يوم واحد تقريبا على عودة المعارك والقصف الجوي للتحالف العربي، أكدت فيه أن موقفها من مشاورات السلام اليمنية في الكويت "عبر عنه بيان سفراء الدول الـ 18 الراعية للتسوية السياسية السلمية الذي تم بمشاركتها."

وبيان سفراء الدول الـــ 18 الذي أشارت إليه الخارجية الروسية وأكدت على أنه يعبر عن موقفها، من المهم معرفة أنه أشاد بموقف الوفد الحكومي من الرؤية التي قدمها مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة اسماعيل ولد الشيخ، ورفضها الانقلابين. والأهم من ذلك أنه أعتبر تشكيل المجلس السياسي "لا يتوافق مع الالتزامات والنوايا الحسنة للسعي في تحقيق حل سلمي تحت رعاية الأمم المتحدة، وفق قرارات مجلس الأمن ذات العلاقة، وخاصة القرار رقم 2216، ومبادرة دول مجلس التعاون الخليجي وآليتها التنفيذية، ومُخرجات مؤتمر الحوار الوطني الشامل".

إذا، فقد باتت الطريق معبدة شبه كليا للعودة إلى الخيار العسكري الذي ظل معظم المتابعين، في اليمن والخليج، بشكل خاص، ينظرون إليه – وفقا للكثير من التجارب - باعتباره الخيار الأنسب مع مثل هذه الجماعة التابعة والمدعومة من إيران، الدولة ذات الأهداف التخريبية في المنطقة، بغية فرض سيطرتها عليها، على أساس من منظور تاريخي – ديني/مذهبي، زاد من تعزيزه وتسويغه وتفعيله وإثارته أكثر ما عرف بمبدأ تصدير الثورة الإسلامية الخمينية، المستهدفة بشكل خاص إقلاق وزعزعة وتدمير دول المنطقة، وبشكل أكثر خصوصية، الدول الواقعة في الجغرافية السنية، التي تصنفها كبيئة معادية لها، تمهيدا لفرض السيطرة الكلية عليها وعلى الأقليم بالكامل.  

محاذير ومتطلبات الحسم العسكري

على أن هذه العودة، التي أنتظرها معظم اليمنيين، ومعه تقريبا معظم الشعب الخليجي، ستستوجب – هذه المرة أكثر من غيرها - حزما عسكريا أقوى من السابق، بحيث لا تشكل مجرد عودة اضطرارية أفضت إليها فشل جولة من المشاورات السياسية فحسب، بل يجب أن ينظر إلى هذه العودة باعتبارها الخيار الوحيد الأنجع لحسم المعركة بشكل نهائي، أو على الأقل بالشكل المطلوب لإرضاخ المتعنتين للحل السياسي الذي يعيد اليمن إلى سلام مستدام، ويؤمن الدول المجاورة والشقيقة بإزالة مخاوفها على نحو دائم.

ومن جانب نفسي بحت، يعتقد كثيرون أن عودة مشاركة طيران التحالف بتلك الفاعلية والكثافة الكبيرة التي سجلتها خلال الأيام الأولى الماضية من القصف الجوي، مع التحركات القوية على الأرض في جبهة نهم-صنعاء، لهو أمر باعث على الاطمئنان بكون العودة إلى هذا الخيار بات حقيقة مسلم بها للحسم، أمام مليشيات لا تؤمن إلا بالسلاح والعنف للسيطرة وفرض نفسها وأراءها بالقوة.  

،،

يتوجب على التحالف العربي العمل جديا على تجاوز كافة العقبات والمخاوف السابقة التي طغت على مسار المعركة وأفقدتها النجاح المطلوب، بما في ذلك إعادة النظر في طبيعة ونوعية تجهيزات القوة الميدانية وكفاءة وموثوقية قياداتها، وباستجابة أكثر مرونة وانسيابية من السابق

،،

أما من الناحية العسكرية، فلكي تؤتي هذه المعركة ثمارها على أكمل وجه، سيتوجب على التحالف، بقيادة المملكة السعودية، العمل بشكل حثيث وجدي على تجاوز كافة المخاوف التي أضعفت وأفقدت العملية العسكرية السابقة نجاحها. وبشكل خاص ما يتعلق بتجهيزات القوة الميدانية المناسبة التي سيكون لها الشأن الأكبر والقول الفصل في الحسم العسكري، سواء من حيث طبيعة ومرجعية القوى العسكرية والسياسية والقبلية المؤيدة والمشاركة في العمليات الميدانية، أم من حيث اختيار قياداتها الموثوقة والكفؤة، أم ما يتعلق بالعدة والعتاد العسكري ونوعيته، وكذا حجم الدعم القتالي الذي سيتوجب أن يكون أكثر مرونة وانسيابية من المرحلة السابقة.

وإذا كانت النجاحات التي تحصدها جبهة نهم – صنعاء، منذ بدأت المعركة العسكرية بالعودة مؤخرا، من شأنها أن تؤكد أن ثمة عزم حقيقي وإرادة جادة للحسم، فإن ذلك يجعلنا نفترض أن فترة الهدنة التي مضت ساعدت قيادة التحالف على إعادة النظر في تفاصيل المعركة القادمة ومتطلباتها، وأعدت خطتها اللازمة لذلك، بما في ذلك العمل بكل حزم وجدية على تجاوز تلك الإزدواجية القطبية في اتخاذ القرار حتى يتحقق النجاح بكفاءة

في الأخير: على هذه المعركة أن تحسم في الوقت المناسب، ذلك أن تمددها أكثر من اللازم سيجعلها تحت رحمة المفاجئات، وربما حدوث انتكاسات جديدة، الأمر الذي قد يفقد الثقة كليا بجدوى الخيار العسكري، حتى وأن كانت الحقيقة غير ذلك، لها علاقة أكثر بكفاءة أو نوايا القائمين على تنفيذ هذا الخيار، وليس الخيار ذاته.   

 

 

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر