اللادولة أولاً


مروان الغفوري

يتحدث الرئيس هادي من المنفى عن 80% من الأرض جرى تحريرها. وعندما حاول العودة إلى العاصمة المؤقتة مُنعت طائرته من الهبوط. يعمل التحالف العربي على تعزيز وضع ما تحت الدولة ضمن حسابات غير مفهومة. وقبل أيام أصدرت قيادة التحالف أمراً إلى قائد محور تعز تطالبه بالتوقف عن تمرير خطة حكومية لدمج الفصائل المسلحة في الجيش، وأن يترك تلك الفصائل وشأنها. ثم استدعت قوات التحالف قادة تلك الفصائل إلى عدن وطلبت منهم مناوءة الدولة ووعدتهم بالعون.
 
خرجت السعودية من الحرب السورية مهزومة بعد أن أنفقت على الجماعات السلفية هناك، كالفتح والنصرة، مليارات الدولارات. وتوقع كتاب يمنيون أن يدفع سقوط حلب في قبضة الإيرانيين صناع القرار في السعودية إلى دعم معركة استعادة صنعاء. غير أن السعودية سلكت طريقاً آخر وأفسحت الطريق إلى القادة الشعبويين في الجنوب لإعلان مجلسهم السياسي المناهض لمشروع الدولة اليمنية. ومع مرور الوقت يتعقد الوضع الإداري والسياسي في المناطق المحررة، ونكتشف مع الأيام دوراً حاسماً للخليجيين في تخريب التحرير.
 
تاهت الحرب في اليمن، كما تاه السلم من قبل. تاريخياً، كما الآن، تتوجس الدولة السعودية من أي مشروع مستدام للاستقرار في اليمن. وبرغم أن جمهورية ?? سبتمبر جاءت بنخبة متنورة كان من الممكن العمل معها لإنجاز تحول تاريخي في مسيرة الدولة اليمنية إلا أن السعودية رأت أن الاختيار الأفضل هو أن تخوض حرباً عسكرية ضد تلك النخبة بدلاً عن إسنادها. ثم بعد أكثر من عقد من الزمان ساعدت السعودية حلفاءها الداخليين في الخلاص من رئيس يمني ذي كاريزما ومشروع. كان ممكناً أن تضيف حياة الرجل، وذلك احتمال تاريخي، خيراً إلى حياة اليمنيين.
 
ولو أن دولة يمنية حقيقية تأسست قبل أربعة عقود من الزمان لما كانت ميليشيات إيران تفعل بالسعودية كل هذا. وفي كل مرة تعمل فيها السعودية على تقويض الأوضاع في اليمن من خلال دعمها لمشاريع ما تحت الدولة فإن تلك المشاريع تكبر وتصير خطراً أكيداً على أبسط تعريفات السعودية لأمنها القومي. حالياً يمر اليمن بطور من زعزعة الاستقرار والتفكك، وهي تجربة ضارية لم يسبق له أن مر بمثيلها. حدث انتقال في الحكم في السعودية في يناير????، بعد سقوط صنعاء بأربعة أشهر.
 
بادر الملك الجديد إلى التدخل الخشن في المسألة اليمنية. جاء الملك من منطقة الظل، وتدخل في اليمن عبر تحالف عربي واسع معطياً انطباعاً إيجابياً عن النوايا السعودية الأجد. ومع ذهاب السعودية إلى الحرب في اليمن فإنها عززت حضورها بقرار من جامعة الدول العربية، ومن مجلس الأمن، وبموافقة القوى السياسية اليمنية ومؤسسة الرئاسة. ولأول مرة اكتسب التدخل السعودي في اليمن طابعاً قانونياً معتبراً.
 
قاتلت السعودية في اليمن، وبالتوازي كانت تؤسس جماعات راديكالية تدين لها بالولاء ولا تعترف بقيمة الدولة القومية. في الشمال، كما في الجنوب، أنشأت تلك الجماعات معسكراتها الخاصة، وحدث أن طلب التحالف العربي من الجيش اليمني في تعز، قوامه أكثر من ?? ألف مقاتل، العمل تحت قيادة شيخ سلفي يرتبط بالسعوديين والإماراتيين بشكل مباشر. لا توجد صورة شخصية للقائد السلفي الذي قربته السعودية منها واختارته ليكون الپروكسي الخاص بها، فهو يحرم التصوير الفوتوغرافي والاحتفالات المدرسية. وقد سبق أن اقتحم جنوده المدارس في تعز لمنع احتفالات طلابية. وجدت السعودية في ذلك الرجل التعبير الأفضل عن إرادتها.
 
إذا ذهب اليمن إلى الاستقرار فستذهب معه الأحزاب، وستتحرك الحياة السياسية، وستتنفس الديموقراطية والتنوع الخلاق. تفكر السعودية والإمارات بمرحلة ما بعد الحرب وترى أن استقرار اليمن عبر اختيار السياسة القائمة على النظام الحزبي هي نتيجة كارثية لجهودها العسكرية. ذلك ما دفع الإمارات إلى التورط التاريخي في الجنوب. فهي تدعم جماعات مسلحة انفصالية وتدفعها إلى الضجيج والحركة إلى ما قبل إعلان الانفصال بخطوة.
 
إذ تدرك الإمارات أنها ستكون قد أطلقت النار على جبين حليفتها إذا أعلن الجنوب استقلاله. لكنها، أيضاً، لا تريد أن تفرط بالمشاعر الانفصالية المعادية للوحدة مع الشمال والمعادية لأي فكرة عن الديموقراطية في الجنوب. فهي تستثمر تلك المشاعر الانتحارية لصالح تقويض السياسة، ثم تجريمها. وقبل أيام قال مدير أمن عدن، وهو أحد الرجال الذين يتبعون الإمارات، إن الدور جاء على الأحزاب، وإنه لن يستثني أي مقر. في خطابه المصور قال إنه سيعمل على سحق تلك الأحزاب ضمن التزامه، دولياً، بالحرب على الإرهاب. تعرف السياسة في جنوب اليمن بوصفها إرهاباً، وهذه هي الإضافة الجديدة التي قدمتها الإمارات إلى الحقل السياسي في اليمن.
 
تخشى السعودية من يمن لكل الناس، يمن يختار السياسة سبيلاً، ولا تسوق لذلك أسباباً، حتى أمام نفسها. أما الإمارات فهي دولة على شكل شركة، وتلك معنية قبل كل شيء بتحويل الدول إلى منافذ. ثم، أيضاً، هي معنية بحربها الباردة مع جارتها، وتبدو على أهبة الاستعداد للذهاب في تلك الحرب بعيداً حتى تقويض أي كيان في العالم من المحتمل أن تربطه بجارتها علاقة ما.
 
يتعقد المشهد في اليمن. تتأسس الدولة شيئاً فشيئاً، لكن اللادولة آخذة في الصعود، وعلى كتفي التحالف العربي. في الجنوب تجاوزت اللادولة الدولة، وهي في طريقها لطي الدولة كما توعد أحد القادة العسكريين الجنوبيين في كلمته الأخيرة. وفي الشهور الأخيرة فكرت الدولتان، السعودية والإمارات، في ممكنات أن تعيدا صياغة الأوضاع في اليمن لمصلحة الرئيس المخلوع. ولأن المسألة شديدة التعقيد فقد بقيت السعودية عند حدها الجنوبي فاقدة للقدرة على تشكيل أي فكرة، بخلاف حليفتها الإمارات. الأخيرة وضعت على عاتقها مهمة واحدة: الحرب على الرئيس هادي. وعندما سافر الرجل إلى الإمارات لشرح موقفه، أو للتوسل بتعبير أكثر دقة، فإن حكام البلد الصغير أرسلوا له صغار الضباط لاستقباله في المطار.
 
تعمل الدولتان بجلد ملحوظ على الحيولة دون ظهر أي ملمح متماسك للدولة. إذ لم يمض على وصول نائب رئيس الوزراء إلى تعز سوى أسبوعين حتى استدعى التحالف العربي إلى عدن حلفاءه في تعز وطلب منهم، بصورة واضحة، رفض الكثير من الإجراءات الإدارية التي تقف خلفها مؤسسة الرئاسة.
 
استعادة التجربة السورية تكشف عن طريق مماثل سلكته الدولتان وانتهى بهما المطاف وقد دفعتا خارج الحدود السورية في مشهد مليء بالقسوة والإذلال. وعندما توسلت السعودية إلى أحد الساسة العراقيين التوسط لدى إيران فإن الأخيرة قالت بتعالٍ تملك أسبابه إن على السعودية أن تحسن سلوكها أولاً، وأن تغادر اليمن. وأن سلوك السعودية الجيد، بالتعبير الإيراني، هو الوسيلة الوحيدة التي ستدفع الإيرانيين إلى احترامها.
 
تغرق السعودية في حيرتها وفي حروبها. ولأن اليمنيين وضعوا كل بيضهم في السلة السعودية فإن الأخيرة جلست محتارة ويبدو أنها كسرت كل بيض اليمنيين. لكن السعودية تستجيب لحيرتها على طريقتها القديمة: احتواء اللااستقرار بالمزيد من زعزعة الاستقرار. وإذا كان اليمنيون قد استعانوا بالقوات الخليجية في مواجهة الميليشيات الإيرانية فإنهم سيقفون مكتوفي الأيدي أمام الميليشيات الخليجية، وربما يلجأون إلى الميليشيات الإيرانية طالبين منها العون. ويبدو أن اليمنيين، في نهاية المطاف، قد استجاروا من الرمضاء بالنار.
 
*مدونات الجزيرة

مشاركة الصفحة:

آخر الأخبار

اعلان جانبي

فيديو


اختيار المحرر